Saturday, July 3, 2010

عفاريت الراديو .. سرد المنفلت

د.أماني فؤاد .. أخبار الأدب
عدد الأحد 4 يوليه 2010



تتميز مجموعة " عفاريت الراديو " لمحمد خير في قسمها الأول " لمح البصر " بالتقاط مشاعر مبهمة في الحياة، لحظات قصيرة وعابرة للغاية، مهمشة ولها قدرة علي الانفلات والتلاشي السريع، فيأتي " محمد خير " بحسه الشعري والسردي ليلتقط هذا الوجود اللحظي العابر ويصوغه فيما يشبه تجهيز الشريحة المعملية الكشفية، فيقبض علي اللحظة برقائق من الزجاج الشفيف، ويضعها تحت الميكروسكوب الفني الإنساني، ليري ما لا يُري بالعين المجردة، أو بالمشاعر والأحاسيس العابرة، يوقف اللحظة أو الزمن ليضع قيوداً حريرية في معصمي نور المناطق الوجدانية بالبشر، ليُبقي علي العابر، ووقتها قد يدرك الإنسان ذاته، ويزداد فهمه لها . إنها كتابة تأخذ من الأقصوصة شكلها الفني بكل ما يفرضه من آليات سرد والتقاط للتفاصيل . والأقصوصة فن خرج من رحم القصة القصيرة لكنه مغاير له .
1
يغوص " محمد خير " في الداخل الإنساني شديد التعقيد، لا علي نسق التحليل النفسي العميق، أو تتبع تاريخ التجارب الإنسانية في تأثيراتها الاجتماعية أو الثقافية المتنوعة، ولا غيرها من آليات، لكنه يلتقط فيما يشبه الحياد البارد نقطة واحدة في حياة الفرد الإنساني، خلية بشرية واحدة إن صح التشبيه، حين تتقاطع فيها مجموعة من العوامل مجتمعة، وغير مقصود اجتماعها علي هذا النحو في حياة الفرد، شأن حياة البشر الواقعية، مثل ما صنع في قصتيه " فادي " و " لم نفكر " وفيهما يكشف " محمد خير " عوامل كثيرة ومتعددة، تتقاطع لتصنع هذا الوجود الملتبس، في شخصية فادي الذي يخترع وجود توأم له فيسقط عليه أخطاءه ونزواته، أو وجود هذه الأنثي التي ربما لو حدث بينها وبين السارد علاقة متحققة، لأنجبا معاً هذه الطفلة التي تحمل ملامح كليهما، وفي قصة " لم نفكر " يصور القصاص منطقة ضبابية بين الإرادة واللاإرادة ويشكل مجموعة من التباديل والتوافيق علي مستوي الداخل النفسي المتخيل، لكنها لم تتحقق نهائياً بالواقع ذاته .
ولقد لاحظت أن هناك غوصاً متعمداً في مكنونات ومنعطفات الداخل ومناطقه المنزوية، وإلقاء الضوء الفني عليها في مقابل الكف النسبي عن الخارج الهمجي القامع، الذي لا قدرة للإنسان الفرد علي التناطح معه، لضعف الكائن البشري أمام هذه الآلة الأمنية المتضخمة والقاسية التي تتحكم بالمجتمع في لحظته الراهنة .
2
وتتنوع تقنيات القص في مجموعة " عفاريت الراديو ":
في قصته " في شارع خاتم المرسلين .." يستخدم القصاص تقنية سردية تتسم بالتوازي، حوار من طرف السائق وتعليق أو انطباعات داخلية من جهة السارد، وفيه نلمح عدم التواصل أو البون النفسي الشاسع بين الشخصيتين، لكننا أيضاً نشم رائحة الموت من خلال عبارات السائق، وما سيعانيه بالفعل بعد دقائق وهو ما عبر عنه السارد بالقلق الطفيف الذي لا يعرف سببه، وأن حياة السائق في الختام كما يلمح عنوان القصة، منطقة ضبابية لا نستطيع أن نحددها، لكننا يمكن أن نستشعرها أو تقع في منطقة الحدس الإنساني، منطقة حائرة في ذلك المشهد لا يمكن التيقن من حدوثها، وفي مثل هذه المنطقة الحدسية الغائمة تقع قصة " عصبية ككل العجائز ".
ويمتلك القصاص قدرة تهيئة الطقس المناسب لكل قصة من مجموعته من خلال المفردات اللغوية والتراكيب الخاصة، فيأخذ بقارئه حثيثاً لعوالم قصصه في مرونة وتلقائية محببة، مثل صنيعه في قصة " عفاريت الراديو " حين يلعب بالظلال منذ السطور الأولي بالقصة، يقول " لم تكن الغارة تعني لي سوي عدد هائل من الشموع فوق الطاولة الخشبية التي تتوسط الصالة، كنت ألهو وقتها مقترباً ومبتعداً عن الطاولة، أقترب منها فيكبر خيالي علي الحائط، ويصغر عندما أبتعد " ص ثم يتحدث عن الظلام ويستخدم مفردات وتراكيب من قبيل تغوص، تنبعث الأصوات في العتمة، يبدأ بصري بالزوغان وهكذا . وتصور القصة الخيال البشري الطفولي الجميل في مشهد ينتهي بمفارقة معبرة، للدلالة علي بقاء التصورات الطفولية المتخيلة في الشخصية الإنسانية مهما تقدم بها الزمن، نفس هذا العالم الطفولي الذي يصوره في قصة " مفاجأة مشتركة " وتلك المخاوف الفطرية من الثعابين والعقارب .
وفي قصته " ظلال وهمس " لا يدخل القاص قارئه منطقة أو طقس الجنس المعهود لكن هواجس المتردد في ممارسة هذه التجربة، الحالم بسياق خاص تتردد فيه بعض الذكريات عن تجربة مرت بحياته في لحظة ما، ولذا يأتي القص من خلال مزاوجة بين حلم وواقع مغاير يختلفان ويتلاقيان في آن واحد، منطقة من الاندياح بين الاثنين، يعضد تصوري هذا صياغة القص بطريقة توحي بتصحيح السارد لنفسه ودقائق مشاعره يقول " وتلمح ظلاً يتحرك بسرعة علي الحائط المواجه، ثم تتبين أنه ليس سريعاً جداً وإنما أنت متوتر أكثر من اللازم " ، ولذا يلجأ القصاص أيضاً لبعض الصور المجازية مثل قوله " وأحاديث متخيلة تخرج من الجدران " ، ويستخدم القصاص محمد خير ذات الصور المجازية في قصة " حدود نهاية الشارع " يقول "... أهبط من فوق الرصيف وأنفض عني الغبار، وأحكي لها فأتقن التقمص " ص58، وتستمر سردية هذه القصة في لغة شاعرية، وتبدو لغة السرد فيها كأنها فراشة لا تلبث أن تستقر علي زهرة الحكي أو قصة الحب الرومانسية، ثم تفارقها، لتحلق تحليقة أخري في أزمنة متغايرة، لتلتقط إشعاعات أو تقاطعات لحظة زمنية منصرمة مع لحظة آنية معاشة، من خلال مشاهد ولقطات شديدة العذوبة، لكنها مشاهد حية تحكي بدايات قصة حب رائقة في بداياتها الناعمة .
3
واللغة المجازية في المجموعة مكتملة ولا تطلب لذاتها، تتكثف في إحدي القصص مثل القصة السابقة أو تأتي عرضاً حين يستدعي الأسلوب هذا التعبير المجازي مثل قوله في قصة " ضوء المصعد " " وبدا كأنني علقت في بقعة خارج الزمن " ، أو قوله " وأن الوحدة لا تتوقف عن إنجاب الهواجس " المجاز هنا يقترب من اللغة التقريرية في استخداماتها الرائقة العميقة، وأتصور أن المعني الذي يريد أن يقبض عليه القصاص ويجده في مناطق غير مطروقة كثيراً في القص وهي التي تستدعي تلك التعبيرات المجازية العفوية غير المستدعاة بالرغبة المتعمدة من القصاص في التباهي بصياغتها، استدعي القصاص هذه التعبيرات المجازية لأنها تعبر عن الحقيقة كما يتخيلها، فلغة المجموعة يغلب عليها اللغة التقريرية التي تصب مباشرة نحو أهدافها التعبيرية .
في قصة " الشئ بالشئ " يجمع القصاص بين ثلاث لحظات متداخلة : السرد لحظة القص التي تصور مشهد الموت، وخصوصية علاقة السارد بالمتوفاة الأجنبية، وتاريخ العلاقة ذاتها في إطار علاقة مجموعة من الأصدقاء، ينفذ القصاص ذلك من خلال متوازيات ثلاثة يتقاطعون في لحظات سرد متوالية ومتداخلة بانسيابية في بعض المواضع، أو بقطع مفاجئ في مناطق أخري، وفي ظني أن القصاص بهذه الآليات السردية يحاكي الحياة، مصوراً لما يحدث بها بالفعل، ما نتوقعه وما لا نتوقعه لكنه يحدث مفاجئاً وعلي غير انتظار .
وتبدو نهاية قصة " علي رصيف واسع " نهاية إرتدادية تتكرر بها نفس أحداث وجمل القصة في أولها وآخرها، كانت الجمل والأحداث في البداية مبهمة غير محملة سوي بذاتها، بكونها مرسومة علي هذا النحو، لتأتي النهاية وتتكرر نفس الأحداث وتقريباً نفس الجمل، لكنها في هذه المرة قد حملت بالسياق الذي أوجدها ودلالة حدوثها، كما أضيفت لها ملاحظة السارد لهذه النقطة الدائرية البيضاء في عين السائق والتي أتصور أنها ترمز لهذه المنطقة التي لا نستوعب فيها الآخرين، ولا نري فيها وجودهم، تلك المنطقة التي تعد من أخطر عيوب الحضارة الإنسانية .
4
تحمل مجموعة " محمد خير " اسم إحدي قصص القسم الثاني " عفاريت الراديو " هذا القسم الذي يأخذ عنوان " هجرات مؤقتة " ، ولو تفحصنا قصص هذا القسم لتبادر إلي الذهن أن الهجرة حتماً ستتم في عنصر المكان وبعد القراءة سنكتشف أن كل الهجرات تتم بداخل الذات الإنسانية هجرة من الصمت والحياد في " ضوء المصعد " و"ورقة بيضاء مطوية " ، أو هجرة من التخيلات الطفولية البريئة وعوالمها الثرية في " عفاريت الراديو " ، أو هجرة من علاقة منتهية في " ألوان البالونات " مثلما تتطاير البالونات الملونة بيد الصبي، أو هجرة إلي علاقة قديمة، هجرة إلي الذكريات في " ظلال وهمس " ، هجرة إلي التماس عذر عند الآخر في " علي رصيف واسع " ، أو هجرة قدرية إلي ما يأنف منه الإنسان في " قطة في مطعم صغير " ، أو هجرة إلا الاستسلام لطقس أمني بعد ثورات متكررة في " ممطر شتاءاً " أو هجرة إلي ما يفرض علي الإنسان لا ما يريده لطمعه أو طمع الآخرين في " عشرة جنيهات " ، أو هجرة إلي تذكر علاقة كان من الممكن أن تحدث لو لم تتدخل مقاطعات قدرية من آخرين في قصة " الشئ بالشئ ".
ولقد أضاف القصاص لفظ مؤقتة إلي الهجرات لأنها منسوبة إلي الداخل الإنساني وهو متغير متقلب، لا يضمن له أحد أي ثبات أو تواتر كما يصوره القصاص ويعبر عنه، وهو ما يتفق مع علم النفس الحديث ونظراته في النفس الإنسانية .
ويتفاوت ويتنوع دور العنوانات في قصص المجموعة لكنها جميعا تُعد ركناً أساسياً في بناء القصة وتكوينها الهندسي فهي موظفة لأغراض متنوعة، أحياناً يأتي العنوان وتكون مفرداته جزءاً من بداية القصة وإستهلالاً لها، أو خاتمتها أو دالاً علي عنصر المفارقة فيها، أو تعليقاً عاماً علي القصة مثل " موعد لن يتكرر " أو مفهومها ودلالتها المحتملة .
ولذا تقع العنوانات جميعها في القسمين " لمح البصر " و"هجرات مؤقتة " ما بين انفتاح العالم النصي وإنتاج دلالته، أو جعل القصة ذات وجود امتدادي يحتوي نهايات متجددة .
ولذا يغلب علي المجموعة طابع الزمن اللحظي المنفتح، زمن اللحظة التي تكتنز بما قبلها أو ما سيأتي بعدها، هي لحظة نتاج الماضي والحاضر والمستقبل، كما أنها لحظة فردية وغير فردية في ذات الوقت، لحظة يصنعها الفرد في علاقته بالمجموع أو بالآخر .
اختصت هذه المجموعة بخبرات وتجارب لم تزل شابة، تلقائية وفطرية لم تثقل بتجارب السنين فادحة البصمات، غائرة العلامات في الشخصية الفنية، ولقد اتسق هذا مع تجارب القصاص الشاب وقراءاته التي لم تزل في طور التشكل المستمر، لكن تجربته القصصية تنبأ برغبته في ارتياء مناطق غير مأهولة في النص القصصي القصير مستخدماً هذه التقنيات الفنية المتنوعة، وهذه النوعية المميزة من الانفعالات في حال تقاطعها .
وتتضمن المجموعة خروجاً من الداخل الإنساني الفرد إلي إشارات إلي تفاعل الفرد مع المجتمع، في تشابك محدود، انطلاقات صغيرة لكنها عميقة ومعبرة، مثل قصتيه " ممطر شتاءاً " أو " تقاطع " وتصويره لتأثيرات المنظومة الأمنية علي الفرد في المجتمع الذي نحياه، أو تصويره لتحولات المجتمع المصري وسيطرة الفكر الأصولي الرجعي عليه في قصته " في أي وقت " ، وفي هذا النص يتعامل القصاص مع الحدث الذي يتم حكيه كأنه حادث افتراضي يمكن أن تتعدد مرات حدوثه ليصور طغيان ووطأة هذا الاتجاه في مقدرات وأحوال المجتمع المصري، وليصور في ذات النص أيضاً رثاء القصاص لحالة من الود والألفة والأريحية كانت تظلل الأجواء العامة في المجتمع المصري قبل تفشي هذه الأفكار والجماعات المتشددة به، فهو يرثي مجتمع لا يتقبل تمايزاته، وتعايش الأفكار والحريات به
لم تطَّرِد تلك الذبذبات الشعورية المتوترة والمتجددة بكل قصص المجموعة وتتفاوت قدرة القصاص علي التقاط هذا العابر ورصد المغاير فيه، وارتفع هذا الحس الإنساني في بعضها وانطمس بعض الشئ في قصص أخري، لكن هذه المجموعة تنبأ بميلاد قصاص له بصمة قصصية مميزة
.

Friday, June 25, 2010

قصص محمد خير فسحة للعب


دكتور يسري عبدالله عن مجموعة عفاريت الراديو


أن تحكي شيئاً معناه أن تتوفر على شيء خاص لتقوله». وفي مجموعة «عفاريت الراديو» يتوافر القاص المصري محمد خير على خليط من الحكايا المصطبغة جميعها برائحة الدهشة، والمغامرة، واللعب، هذا الذي صار هاجساً جمالياً في نصوصها الاثنين والعشرين، لنصبح - وباختصار - أمام مجموعة قصصية تشف وتقول في آن، رافدها المركزي هو الحكاية، هي مادتها الخام، وهاجسها الدائم. غير أن كيفيات الحكي وطرائقه، هي ما وسمت هذه المجموعة بطابعها الخاص، فلا نتوءات زائدة فيها، ولا تزيَُد لفظياً، وإنما قبض دال على لحظات إنسانية ضافية، ورهيفة، ووعي حاد بماهية النوع الأدبي وشروطه الجمالية.

يحيل عنوان المجموعة إلى إحدى قصصها المركزية «عفاريت الراديو»، والممثلة للروح العامة للقص داخلها، والمعبرة - بجلاء - عن روح النزق والمغايرة التي تـسم نصوصها، فالأشباح تتقافز أمام عيني السارد/ البطل في علامة دالة على انفتاح طاقات التخييل السردي في النص القصصي الذي جاءت دواله مشحونة بمدلولات فكرية وعاطفية ثرية: «ومع أنهم كانوا يتأخرون أحياناً، إلا أنني لم أشك لحظة في مجيئهم، العازفون يسيرون ببطء وكبرياء أمامي داخل الراديو، حجمهم صغير جداً يتقدمون من مقاعدهم ويجلسون...».

تنقسم المجموعة إلى قسمين مركزيين: «لمح البصر»، و «هجرات موقتة»، يتواشجان دلالياً مع الإهداء المعبِّر الذي وضعه محمد خير بين يدي مجموعته: «إلى لحظات ظننتها دائمة». فحالة الإفلات، والروغان، والهرب، هي ما يسم علاقة الذات الساردة بالأشياء من حوله، فلا قبض على شيء، ولا إحساس بيقين ساذج، وإنما استبطان أصيل للجوهر الثري للإنسان، ومحاولة شفيفة لاكتناه ما في داخله. ولذا فالسرد هنا ذو نزوع وصفي محايد، سرد ينحو صوب سبر أغوار الداخل الإنساني، وفي كل نص ينطلق الخيال الخاص بالسارد الرئيس، هذا الخيال المؤسس لطاقة من التخييل السردي، قادرة على خلق علاقة حميمة بين النص ومتلقيه.

يوظف القاص عناوينه الداخلية جيداً، ويختارها بعناية فائقة. فالعنوانان الداخليان اللذان تندرج تحتهما قصص المجموعة، يعبران تعبيراً دالاً عن السياق السردي. فمثلاً في القسم الأول «لمح البصر»، ثمة لحظات خاطفة دوماً، إنسانية الطابع، ما أن تبدأ حتى تنتهي، كتقافز الرجل المجنون أمام عيني السارد، ثم اختفائه في القصة الأولى «فادي». وفي «لم نفكر» تتفلت اللحظات من بين يدي السارد وفتاته، فتبدو إمكانية اللقيا بينهما مستحيل

تمثل عناوين القصص ذاتها إضافة إلى الرؤية السردية للنص، وتتمة لها. في «شارع خاتم المرسلين» يمثل العنوان مؤشراً دالاً - وفق المنحى السيميولوجي- على المكان القصصي، هذا الذي لا يرد ذكره صراحة في متن القصة، اكتفاءً بوروده في العنوان، ولا يخفى ما في الاسم الذي يحمله الشارع من ترميز، بخاصة وأن عدد العائدين من الخليج يشكلون الغالبية داخله. وهكذا يلعب العنوان بوصفه نصاً موازياً. وفي النص يتجادل صوتان سرديان، يمثل السارد أحدهما، ويمثل سائق التاكسي الثاني، وكلاهما يعبر عن رؤية مغايرة للعالم: «كانت حماسته كبيرة ويبدو مستمتعاً بما يؤكده لي: ويحرك الإنسان رأسه يميناً ويساراً من أجل نفس وحيد، مجرد شهيق، لكن من أين؟

يرصد الكاتب هنا التحولات الحادثة في المجتمع برهافة، ووعي شديدين، لا عبر مانيفيستو سياسي، ولكن عبر إشارات والتماعات ذكية، وبصيرة في آن. في «لم نرها مرة أخرى» يضيف العنوان هنا إلى الرؤية السردية أيضاً، ويتممها. إنه قادر على خلق أفق من التوقع لدى القارئ لما آلت إليه وضعية السيدة (المحكي عنها). والتي قد تكون على الأرجح الأم التي زارها السارد/ الابن مع أبيه في المستشفى: «لو أخبرتهم أن عينيَ تؤلمانني سيرغمونني على عمل نظارة، والنظارة في مدرستنا تجعل صاحبها محل سخرية وتمنعه من لعب الكرة، وقبل أن نرجع مع أبي من زيارتنا الأخيرة لها في المستشفى فوجئت بها تجذب أخي الصغير وتحتضنه ثم تقبل كفَه»

تمثل لفظة «النظارة» الدال المركزي في القصة، والقادر على استيلاد الحدث الرئيسي داخلها، والمعبر عن اقتران غياب الرؤية الذاتية لدى السارد/الابن، المحتاج إلى نظارة يعوض بها ضعف الإبصار. في قصة «كان في عالم آخر» يشير العنوان إلى الوضعية المأزومة للمروي عنه/ الشاب المقموع على يد الضابط الذي يتحول إلى حطام إنسان جراء القهر.

في قصة «عصبية ككل العجائز» يهيمن الظل الثقيل لشبح الموت، هذا الذي يبدو مخيفاً مهما حاولنا مغالبة بأسه، وقد لحق الموت هنا بامرأة عجوز كانت تسكن إحدى غرف المكان المركزي (شقة الشخوص)، والتي لا يلبثون أن يمارسوا غياباً قسرياً عنها، جراء الخوف من شبح السيدة، وينهي الكاتب قصته بتقنية الجملة الصادمة: «وكثيراً ما كنت أستيقظ مفزوعاً بلا سبب كما حدث الآن بالضبط، وقبل أن أنعس من جديد تيقنت أن صوت الطرقات على باب الغرفة حقيقي تماماً». يبني الكاتب قصته «في أي وقت» على تقنية الاستباق، بحيث نرى إشارات عدة إلى وقائع ستحدث بعد لحظة الحكي الراهنة. في «تقاطع» تعبر النظرتان المتقاطعتان، الحاملتان معنى التحدي والمقاومة (السارد)، والأخرى القادمة من يد قاتله، عن عالم يسكنه القمع والقهر.

وتتكئ قصة «ورقة بيضاء مطوية» على تقنية المفارقة، فالأب الذي يبدي تبرماً شديداً عندما يضرب أحد ركاب القطار على صدغه، هو ذاته الذي بدا متوائماً مع ضرب مفتش التذاكر ابنه على قفاه، وتكشف القصة هنا عن آليات إنتاج القهر، بخاصة حين تطل الحاجة برأسها على الأب المستكين وتدفعه إلى تملق المفتش: «يمد المفتش يده يصفع الطفل على قفاه، يقول: اصحى ياد. لسه نايم؟ يفتح الولد عينيه، ويعيد المفتش الورقة إلى جاري، ويبتعد من دون سلام، جاري يصيح به: شكراً يا باشا، هاسلم لك عليه

تمثل مجموعة «عفاريت الراديو» تمثيلاً دقيقاً لذلك الحضور الواعد لآليتي الاختزال والتكثيف في مستوييها اللغوي والحدثي، وهما سمتا القصة القصيرة الأساسيتان، وقد استفاد محمد خير من تمرسه بكتابة القصيدة (له ثلاثة دواوين شعرية). ولا يتمثل ذلك في النزوع الشعري للغته فحسب، ولكن في الإمكانات الإيحائية الكامنة في الدوال المستخدمة أيضاً، لنصبح أمام مجموعة لها صوتها الخاص، وتفردها الناجز

.


Monday, April 5, 2010

محمد هشام عبية عن عفاريت الراديو


"عفاريت الراديو".. اسمعْها شعرا وشاهدْها سينما!

رغم سطوة الرواية حاليا على المشهد، وحصادها لمراكز متقدمة في حركة البيع والجدل والاهتمام والنقاش وحتى التحويل إلى أفلام سينمائية، يبقى لـ"القصة القصيرة" ألَق خاص، وعالم مدهش تدخل تفاصيله بنعومة وعمق وجرأة كلما تمكن منها "قاص" موهوب يمتلك أدواته ويعرف جيدا ماذا يكتب، ومجموعة "عفاريت الراديو" للقاص والشاعر والصحفي "محمد خير" نموذج محترم على ذلك.

بدءا من اسم المجموعة شديد الجاذبية، يأخذك "محمد خير" إلى عالمه الذي يمزج فيه بيسر وبراعة بين الخيال والواقع، البراح والضيق، الغلظة والرقة، منطلقا من فتافيت الحكايا التي تبدو أنها تخص راويها إلى دنيا أكبر وأوسع تشمل كل من يقرأ تلك المجموعة القصصية الممتعة التي -حمدا لله- لا تجنح كعادة غالبية القصص القصيرة الجديدة إلى الحداثة وما وراءها، متمسكة بتقاليد القصّ الكلاسيكية الرزينة من تكثيف واختزال ووضوح في الفكرة وهيكل عظمي ملموس للقصة، دون أن يعني ذلك على الإطلاق -وهنا تسكن البراعة- تقليدية أو جمودا أو روتينية في الكتابة الممزوجة بكثير من الجنون المحبب.

معظم قصص المجموعة يشاغِب فيها المؤلف قرّاءه بالعنوان الذي يأتي في أحيان كثيرة ملخِّصا للقصة في كلمة أو اثنتين أو ثلاثة على الأكثر، ومكملا لأحداثها وكأنه في كل مرة تنتهي فيها من قراءة القصة يحيلك إلى العنوان مجددا، يتجلى هذا مثلا في قصة "عصبية ككل العجائز" التي يحكي فيها البطل ليلته التي يقضيها وحيدا في تلك الشقة التي يستأجرها مع زملاء له بين شبرا ومسرة، الشقة رحبة لكنهم يتجنبون تلك الغرفة التي ماتت فيها أم صاحبة الشقة، تلك الغرفة التي لاتزال فيها آثار العجوز الراحلة كـ"شبشبها الجلدي الصغير ودولابها الممتلئ بملابسها البيتية"، تلك الغرفة التي يستحوذ عليهم القلق منها، تلك الغرفة التي تخرج منها طَرقات ما الآن وبطلنا وحيد في الشقة كلها ولهذا لابد أنك عرفت أنها قصة فعلا "عصبية ككل العجائز".

في "موعد لن يتكرر" يتم تكثيف ذكريات وأحداث عشرات السنين في لقاء يجمع بين شخصين باعدت بينهما الظروف والأحوال حتى لما يلتقيا من جديد يبدو أن المسافات ازدادت بعدا يبدو هذا واضحا من نظرة الأول للثاني "سألني عن الحياة في الحي الراقي فوجدت نفسي أبالغ في أسعار الإيجارات والسلع ونظرت له من طرف خفي وقلت لنفسي إن الفقر لا يبرر القذارة"، واضح إذن هنا لماذا هذا هو "موعد لن يتكرر".

ذكاء اقتناص اللحظة عند المؤلف يبدو واضحا في معظم القصص، مثلما حدث في "ورقة بيضاء مطوية" عندما يحوّل ذلك الموقف التقليدي لمرور الكمساري على الركاب في أحد قطارات الصعيد إلى موقف درامي مليء بالتفاصيل الموحية، معتمدا أيضا على الوصف الغني رغم اختزاله "الضوء المتزايد يجعلني أراه بصورة أوضح، بدا أنحف وأكبر سنا مما ظننت، يتوقف القطار فينهض، بدا وكأنه تذكر شيئاً، فإذا به ينحني فجأة، يضرب بقدمه أسفل مقعده فيتحرك جسد صغير، طفل آخر أكبر من مصطفى يقوم بتثاقل من تحت المقعد الخشبي، يعنّفه: يلّا يا واد، وصلنا"، وهي بالمناسبة واحدة من القصص القليلة في المجموعة التي بها حوار بين الأبطال، فيما اعتمدت معظم القصص على الصوت الداخلي.

في "عفاريت الراديو" يستعيد "محمد خير" قبسا من روح الطفولة وخيالاتها، عندما يسرد البطل علاقته بالراديو الروسي الكبير ذي اللمبة الحمراء المميزة، الذي كان يأوي إليه في وقت الغارات، في هذا الوقت وبينما الدنيا مليئة في الخارج بضجيج وطحن يعيش هو عالمه الخاص: "ألصق عيني باللمبة حتى يبدأ بصري بالزوغان، ورغم أنهم كانوا يتأخرون أحيانا، إلا أنني لم أشك لحظة في مجيئهم، العازفون يسيرون ببطء وكبرياء أمامي داخل الراديو، حجمهم صغير جدا يتقدمون من مقاعدهم ويجلسون، سلسلة من النغمات النشاز تنطلق بينما كل منهم يضبط آلته الموسيقية، ثوانٍ ويظهر المطرب في حجم النمل الأبيض الكبير الذي كان يهاجم أثاثنا كل صيف، ينحني قليلا يضبط الميكروفون ويبدأ الغناء دون أن ينظر لي"، خيال فياض به قدر من الطرافة المحببة التي تحيل القارئ رغما عنه إلى ذكريات في مثل هذه المساحات والتفاصيل والعلاقات الحميمية التي تجمعنا عادة مع بعض الأشياء في الصغر.. أي جمال أكثر من هذا تريد إذن؟

المجموعة التي تضم 23 قصة قصيرة يتنوع طولها بين القصير جدا والقصير فقط والمتوسط، حظيت بعناية في ترتيب القصص، فأن تكون الافتتاحية بـ"فادي" القصيرة المركّزة التي فيها بعض من النشوة التي تصاحب المرء كلما نجح في خداع الآخرين، فهذا مقصود، وأن تكون الخاتمة بـ"الشيء بالشيء" التي ربما تكون واحدة من أكبر القصص حجما وفيها سرد عميق لمشاعر البطل حينما يحضر إلى شقة صديقته الأجنبية وقد ماتت: "ربما فعلت فيها بلادنا فعلها، جهاز مناعتها احتمل طويلا مياهنا وطعامنا ومواصلاتنا وتوتر شوارعنا ثم انهار دفعة واحدة"، فلابد أن هذا أمر مقصود أيضا وكأن "محمد خير" يستقبلك على حنو وإيقاع سريع ثم يسلمك لصفحات النهاية بترنيمة حزينة مسّها شجن.

"عفاريت الراديو" مجموعة قصصية دافئة، تنحاز إلى الشعر، ليس لأن مؤلفها شاعر صاحب نفَس خاص وقد صدر له ديوانان بالعامية قبل ذلك؛ وإنما لأنها تنحاز إلى سطوة الشعر وجمالياته وانفعاله باللحظة، مصحوبا ذلك بعين ترى الدنيا أمامها شاشة كبيرة، فكأنك تسمع القصص شعرا وتشاهدها سينما.. وأي متعة هذه؟!

محمد هشام عبية

موقع "بص وطل " في إبريل 2009























Monday, March 8, 2010

الشاعر الكبير بهاء جاهين عن هدايا االوحدة

كلمة
هدايا الوحدة
بقلم: بهاء جاهين
إنسان مفرد‏,‏ لاصحبة له إلا ذكري‏.‏ هكذا يتبدي المتكلم في قصائد ديوان هدايا الوحدة لشاعره محمد خير‏.‏ كل شيء صامت حوله‏,‏ والحديث موجه للمطلق‏.‏ هكذا تتنزل القصائد في لحظات الصمت‏.‏

وهي هدايا حقا‏,‏ وهدايا قيمة‏,‏ ولايستثني من ذلك إلا القليل‏.‏
مفردات القصائد‏:‏ حبيبة غائبة‏,‏ وسرير وجدار وسقف ومطبخ‏,‏ ولايتجاوز ساكن القصيدة عادة حدود المكان الضيق إلا الي الشرفة‏:‏
فوق أرفف المطبخ
تركت لي
كل هذه العلب
وقد ألصقت فوقها
أوراقك الصغيرة
وخطك الكبير
يشرح أسماء البهارات
بوضوح وصبر‏..‏
كنت أعرف أن هذا الحنان
سيؤلمني
يوما‏..‏
ومفردات منزلية أخري‏:‏ مثل الدولاب‏,‏ مزلاج الباب‏..‏ أبعد مكان يذهب اليه أنا المتكلم سور حديقة في مكان ما مبهم‏,‏ ومعه الحبيبة‏.‏ والشاعر لايشير الي تلك المرأة بصفة حبيبة ولايشير الي نفسه بصفة شاعر‏,‏ فبينما تزدحم الغرفة بالحضور والغياب‏,‏ لا اشارة الي ورقة أوقلم‏,‏ ولاحتي كتاب‏,‏ ولا اسم للمحبوبة ولاصفة‏.‏ هذا التجريد يجعل النص أرحب وأدعي لتوحد القاريء مع الكاتب‏,‏ أو بالأحري‏,‏ المتكلم‏.‏
ومن النماذج الرمزية القليلة في الديوان تلك القصيدة عن سور الحديقة‏:‏
في لحظة ما
استندنا سويا
إلي سور حديقة
لم يكن الطلاء
قد جف بعد‏,,‏
مؤخرا
مررت من هناك‏,,‏
نظرت
رأيت أثر جسدينا
في الحديد
الذي كان لامعا
يومنا‏..‏
لاتسيئي الظن
أعادوا طلاء السور
مرارا
بعد تلك المرة
‏..............‏
لكنني
مازلت أميز أثرنا
رغم ذلك
لي عدة ملاحظات‏:‏
أولاها أن هذه القصيدة الرمزية‏,‏ النادرة بالنسبة للديوان‏,‏ تتمتع برمز بكر طازج ورقيق‏,‏ وأنها من فرط رقتها وشجوها تكاد تحس وراء سطورها بحرا غنائيا مجهولا من بحور الشعر العربي‏,‏ بينما هي مجرد جمل من النثر مجزأ كل منها الي ثلاثة او أربعة سطور‏.‏
والقصيدة الواحدة التي يشير فيها الشاعر لنفسه صراحة علي أنه شاعر هي قصيدة الكسل‏,‏ التي تعتبر مفتتحا للديوان‏.‏ يقول محمد خير‏:‏
معظم تلك القصائد
خضتها
بدلا من خوض الحياة‏,‏
أنا مدين إذن
للكسل
لاتناقض هنا بين حضور الشاعر بصفته وبين غيابه في الديوان‏,‏ فالاشارة هنا مبررة‏,‏ لأن هذه القصيدة‏-‏ كما قلت‏-‏ مقدمة يشرح فيها منهجه كسكلان لايغادر غرفته إلا بالكاد‏..‏ ربما هذه شخصيته‏,‏ او هو رد فعل مؤقت لانتهاء قصة حب‏,‏ إلا أن السطور التي أوردتها الآن تؤيد الاحتمال الأول‏.‏ وفي تلك العزلة والوحدة يزوره الشعر وهو يحمل هدايا كأي زائر لطيف ودود‏,‏ رغم أنه صاحب بيت‏.‏
يتجلي من كل هذا أن في الديوان وحدة عضوية‏,‏ لأن الحاضر والغائب خيط ينتظم اللآليء كما يقول أمل دنقل‏.‏ المتكلم حاضر والمحبوبة غائبة‏,‏ ولكن حضورها قوي ومتكرر‏,‏ والحاضر أعطاه الكاتب بعض الاستقلال‏,‏ دون أن ينفصم تماما عنه‏,‏ وجعله شخصية درامية تتحدث عبر القصائد‏.‏
وفي كلمتين‏,‏ الديوان جيد‏,‏ والشعر فيه هامس وعذب‏,‏ والشاعر يشتغل في قماشة ضيقة لكنها جميلة التطريز والوشي المنمنم‏,‏ وأنا أرشحه لك لكي تقرأه‏.‏
وهو صادر عن دار ميريت‏.

الأهرام 9 مارس 2010‏

http://www.ahram.org.eg/100/2010/03/09/11/10710.aspx

هدايا الوحدة : شعرية الهشاشة .. والخيال القريب

هدايا الوحدة : شعرية الهشاشة .. والخيال القريب

فتحي عبدالله

المجتمعات الحديثة التي تقوم علي بيع قوة العمل وعلي التبادل السلعي، تخلق نوعاً من التشيؤ والعزلة أو الاندماج وقبول التبادل حتي علي مستوي الجسد والمشاعر مما يهدد تاريخ الجنس البشري وجميع التمثيلات النوعية والرمزية الدالة علي ذلك، ومن أكثرها حضوراً وفاعلية » الشعر « إلا أنه عبر مسارات متنوعة ومتعددة استطاع أن يحقق وجوده بامتياز، فقد طور شكله من حقبة إلي أخري وأخذ أطواراً أكثر رحابة وأكثر إنسانية وأكثر اقتراباً من الواقع المعيش بكل تفصيلاته الدقيقة، وقد ظهر ذلك بوضوح في نمط » قصيدة النثر « في جميع اقتراحاتها منذ الأربعينيات وحتي الآن .

> > >

وقد أثرت هذه الازدواجية العنيفة من المجتمع الحديث علي الرؤية الكلية للشاعر وعلي انفعالاته ومشاعره بدرجة متفاوتة، حسب الثقافة والانتماء الطبقي لكل شاعر، فقد أحدثت نوعاً من العدمية الخلاقة التي لا تجد مبرراً للسلوك الإنساني سوي تلبية الرغبات الأساسية دون النظر إلي أية قيم أو نوع من الانسحاق والاستسلام، يظهر هشاشة العلاقات الحاكمة بين الفئات الفاعلة في المجتمع أو البحث عن قيم جديدة أكثر رديكالية تتجاوز هذا المأزق سواء علي المستوي الاجتماعي أو علي المستوي الشعري .

وقد تتجاوز هذه الاستجابات الثلاث في ثقافة العرب دون نفي أو قطيعة، وقد يعود هذا إلي طبيعة المجتمعات العربية، فلا هي حديثة ولا هي متخلفة مما يسمح بتجاور أنماط الحداثة اليومية مع أنماط المحافظة وإن كانت أكثر تناقضاً وأشد قطيعة فيما بينها .

وفي هذا الإطار يأتي ديوان » هدايا الوحدة « للشاعر » محمد خير « ممثلاً لشعرية » الهشاشة « والانفعالات ليست حادة وإنما هادئة وأقرب إلي السكون وإن كانت عميقة، تظهر فاعليتها بعيداً عن السطح المشقق أو الخارجي المتداعي، ومن هنا فإنها تتمركز في مجملها حول علاقة الذات الذكورية بالأنثي أو بالأحري تكشف عن هذه العلاقة بعد تدميرها وانفصال الذوات .. فهي في جانب منها تذكر أليم، لا طقوس للفرح أو البهجة فيها ولا سخرية ولا تهكم وإنما هناك نوع من الاسترسال الأنثوي لا يقطعه إلا البكاء مثل قصيدة » سهو «.

» فوق أرفف المطبخ، تركت لي، كل هذه العلب، وقد ألصقت فوقها أوراقك الصغيرة وخطك الكبير، يشرح أسماء البهارات بوضوح وصبر .

كنت أعرف أن هذا الحنان سيؤلمني يوماً، وهذا الاسترسال قد يأخذ أكثر من صيغة من أهمها الحكي أو القصة الشعرية كما في قصيدة «. ص ٣١-٤١

» احتفالها السري «:

» من فتحة بابها الموارب، تتسلل أنغام فرنسية قديمة تحكي عن كائنات ليلها :

مدفأة تعمل بنصف طاقتها، جدران ملونة، ستائر خضراء، كتاب مفتوح وممدد علي وجهه، فوق فخذيها المضمومتين «. ص ٥٤-٦٤

وقد يأخذ شكل الحوار أو مخاطبة الآخر، بحيث ينمو الحدث ويتراكم حتي يصل إلي الذروة كما في قصيدة » عن وقت مضي « ففعل الأمر الذي يختاره الشاعر في بداية كل مقطع هو مركز توليد الشعرية، ومركز البناء في نفس الوقت ففي المقطع الأول يقول :

» اشغليه بالكلام

حارس البناية

ارسليه في مهمة وهمية

تمنحني الدقائق كي أتسلل « ص ١٦

وفي المقطع الثاني : » اخفضي النور - اغلقي الشباك - افتحي الآخر « وهكذا في كل المقاطع حتي ينتهي النص .

أما العدمية الخلاقة فقد ظهرت في قصيدة » الكسل «:

» سأقوم متأخراً، كعادتي

سأكون آخر المغادرين

دون أدني شعور بالفلق

فالمستقيل يعرف كيف يعتني بنفسه

سيجد منفذه إلينا

عاجلاً أم آجلاً « ص ٦-٧

وعلي الجانب الآخر فهناك اهتمام كبير بالجماعة التي يعيش فيها لا لتكريس الحس الجمعي ولا خياله الفني المليء بالمتناقضات وإنما ليعبر عن ذاته المعذبة مثل قصيدة » دون أن ينتبهوا «:

» يؤجلون حياتهم في سبيل الحذر

يجلسون هادئين، مندمجين في أحلام يقظتهم بينما

تسرح في أرواحهم قرحة الانتظار « ص ١٣

> > >

أما النصوص القائمة علي التأمل القريب، والحكمة الموروثة والقلق المتعارف عليه، الذي لا يدفع إلي الفعل وإنما إلي النكوص والحياد أو رؤية الأشياء والأحداث دون انفعال، فالشاعر هنا لا يقدم إلا الرصد فقط، وهنا تغلب التصورات الذهنية والمنطقية مما يوقع النص في التجريد الذي يقلل الشعرية كما في قصيدة » كما تدين «:

» البراويز تسجن اللوحات

المسامير تدمي البراويز

الجدران تبتلع المسامير

الطلاء يخفي الجدران

الشمس تفتت الطلاء « ص ١٥-٢٥

إن هذه البناءات ليست جديدة في قصيدة النثر، وإنما جاءت هنا في عفوية وفطرية مما خفف من آثار التجارب السابقة عليه، ومن أهم ما يميز هذه التجربة هو » الخيال المدني « ، فهو بسيط وقريب وغير مركب، ولا يحتمل التأويل، فدلالته قاطعة، لأن العناصر الفاعلة به بسيطة أيضاً وتكاد تكون واقعية .

أما اللغة التي يستخدمها الشاعر، فإنها أحادية أيضاً وأقرب إلي اللغة التداولية، مما أعطاها قدراً من الحميمية والألفة، وقد وقفت عند مستوي التعبير فقط، فلا هي جزء من التجربة، ولا يطمع الشاعر إلي لغة خاصة، وإنما يكتب في المشترك اللغوي العام .

إن هذه التجربة رغم تميزها وفطريتها لم تكن حادة ولا قاطعة ولا متفردة بشكل كافٍ، وإنما دلت علي ما هو شعري في هدوء كامل .

أخبار الأدب

28 فبراير 2010

Monday, February 22, 2010

هدايا الوحدة : عن الفقد الذي ليس شرا كله



فى بنية دائرية «يسرد» محمد خير قصائد ديوانه هدايا الوحدة

من النقطة التى يبدأ منها يعود، يبدأ من نقطة ترتكن إلى أشباح الماضى وتتطلع إلى المستقبل دون أن تسعى إليه فهو «سيجد منفذه إلينا عاجلا أو آجلا ــ قبل أن ينغمس وحده ــ فى إصلاح كل تلك الأخطاء» ليعود إلى نفس النقطة فى القصيدة الأخيرة «فالأشباح تبقى مخيفة حتى لو كانت لأشخاص نحبهم».

دائرة مفرغة، يوهمنا فيها الشاعر أنه يسعى للتحرر بينما هو يتورط أكثر، ولا يصل إلى خلاص سوى باكتشاف معنى جديد لقيوده، أو باكتشاف قيد جديد.

اللقطة التى كشفها غلاف اللباد، المعبر، شاب مطأطئ الرأس، يتكرر بنفس الهيئة أربع مرات على شكل دائرة، يبدأ ليعود إلى نفس النقطة، غير ممسك بشىء، سوى نتوءات تشكلها الذكريات التى «لا تفنى ــ كالماء تسترده السماء لتسكبه فوقنا مجددا»

رغم أن قصائد الديوان تدور بين طرفين، الشاعر وحبيبته التى هجرته أو هجرها فنحن لسنا أمام تجربة عشق، أو فشل عاطفى، ينجو خير من رومانتيكية الحب وصخب الألم، ليكتب عن ما بعد انتهاء الحب والصخب، فى اللحظة التى يصبح فيها الانفصال أمرا عاديا، مسلما به ومقبولا، ببرود يسمح بالتأمل، وبمسافة لا تبتذل جمال ما كان، بتقديسه أو بتدنيسه، بل لقياس الأمر على حقيقته.

«فى لحظة خرقاء ـ استندنا سويا إلى سور الحديقة ـ لم يكن الطلاء قد جف بعد ـ مؤخرا مررت من هناك ـ رأيت أثر جسدينا ـ أعادوا طلاء السور مرارا ـ لكنى لازلت أميز أثرنا رغم ذلك».

بالبساطة نفسها والألفة التى تميز محمد خير نفسه، نصادق قصائده التى تشبهه، سطح برىء يخفى عمقا ثريا، خشن وحاد ربما لقدرته على النفاذ.

على محاولة تمييز الأثر وتلمس شبح الذكرى يتكئ الديوان، يبدو صاحب «ليل خارجى» هنا كمن لا يلمس سوى ما تستطيعه اليد، كأنه لا يود النفاذ من سطح التجربة، إلى ما هو أعمق وأبعد، لكنه ينفذ إليك رغم ذلك، فى حيلة خير ـ الحياتية والفنية ـ الأثيرة، لكن ما رن تعيد قراءة الديوان، حتى تكتشف أنك خدعت وأن خلف السطح البرىء، دلالات لا تنتهى إلا لتبدأ، باستثناء بعض القصائد القليلة التى تعتمد على المفارقة، فينتهى تأثيرها سريعا بمعرفتها، ولا تضطرك لقراءتها أو محاولة استعادتها فى ذاكرتك من جديد كقصيدة «كأن شيئا لم».

لكن حتى تلك القصائد ـ القليلة ـ التى تستخدم تكنيك التصوير الفوتوغرافى، الذى يسعى أحيانا لتسجيل اللحظة بغض النظر عن أهميتها، تساعدنا فى السير معه فى الدائرة المفرغة، التى لا ترغب فى الاكتشاف.

لا يسعى خير لاكتشاف صوفى فى مفهوم «الوحدة» أو «العزلة» فهو لا يكتشف هدايا كبيرة ولا ينتظرها، بل أسباب صغيرة، تروض هذا الوحش المسمى بالعزلة أو التحرر من النوستالجيا، أقلها «حرية إطفاء الهواتف من جديد» وأجملها «طيف امرأة جديدة ملت من هضم الذكريات وتشتهى لقطف الحب من أوله».

رغم ذلك، بالكسل ذاته، الذى بدأ به الديوان، وجعلته «يخوض القصائد بدلا من خوض الحياة» فهو لا يتحرك لاكتشاف المستقبل الذى ينتظره فى طيف امرأة أخرى، يظل حبيس الزنزانة الوحيدة التى لم ينجح فى التحرر منها

تفكيك العالم، الذكرى، التجربة، من حمل ثقيل، غير مفهوم، من عبء كونى، إلى نتوءات، وحيدة، معزولة عن بعضها، تافهة، ربما ليسهل فهمها أو ليسهل تحملها، لنرى أن «الفقد ليس شرا كله»، بل أكثر من هذا تقتنص شاعرية خير لحظة أكثر حدة عن لحظة الوداع نفسها، فهى غير عابئة بالشجن أو التألم رغم سخونة اللحظة، لكنها عابئة أكثر بالتحرر، بحسابات المكسب والخسارة، «فالخبثاء/ أصحاب التجارب/يعرفون ذلك/ فى لحظات الوداع/ ينشغلون بالتفكير/ فيما سيرتاحون منه: التبرير/مشاجرات المساء/ آلام التأقلم».

تلك الصدمات «المضيئة»، التى تسخر بنفسها من تجربة كونية، كالعشق ومن تفاصيله، هى ذاتها التى تورطت فيه ــ ذات يوم ــ حد الألم، وتحاول التحرر من قيود أشباحه بالكتابة عنها.

سرد شعرى ينغلق على تفاصيله فى أوقات كثيرة، لكن دون استغلاق، فنحن أمام نصوص شفافة بامتياز، تسعى لاقتناص العابر، بشاعرية، بدقة، تنجح من خلال تعريتها لتلك التفاصيل، أن نتعرف معها على ما يتبقى بعد نزع القشرة عن اللب، مخلصة لحدوتة بعينها «حدوتة الانفصال» الذى تم فى بلاد أخرى بعيدة حيث «لم يتورط فى ارتكاب الوداع» تنجح أن تعرى الحب من نعومته، والذكريات من قفازاتها الحريرية، لتتبقى حقيقتها وحدها، دبابيس شائكة، توخز حياتنا، أو زجاج مكسور على الطريق يمنعنا من المضى قدما.

لكن فى أوقات أخرى، تومئ الحكمة أو خلاصة التجربة، تأتى كومضات، تتجلى فجأة وسط الديوان كصفعة ودودة، فلا يتكئ خير عند هذا التجلى على آلية السرد، بل يستعين، بكلام أشبه بكلام العرافين والحكماء بل والدراويش أحيانا، ليتحدث عن هؤلاء الذين «يؤجلون حياتهم فى سبيل الحذر/ يجلسون هادئين/مندمجين/ فى أحلام يقظتهم/ بينما تسرح/ فى أرواحهم قرحة الانتظار»

إنه يقودنا إلى الثورة، على الزجاج المكسور، أو يقود نفسه ليبدو لدقائق، هى عمر تقلبك من تلك القصيدة إلى التى تليها متمردا على الدائرة المفرغة، يبدو كمن وجد حلا، لكنه سرعان ما يعود محبطا، فى دائرة اكتشاف تلك «الهدايا» الزائفة للوحدة، والتى نكتشف فى النهاية أنها كأقراص المسكن، تخفف الألم، تداريه، لكنها لا تقتلعه من جذوره أبدا.

حتى عندما يقفز من وحدته، لـ« يتونس» بالجمع، أو الناس، يسمو بالحالة من وحدة فردية، لنكتشف معه، أنها وحدة جماعية، يقتسم فيها «المسافر ورصيف المحطة» و«المريض وسرير المستشفى» و«الأرملة وذكرياتها» «أقراص الوحدة، يكتشف البيوت المتلاصقة قسرا» رغم الكراهية بقوة الأسمنت، حيث تتحول الشبابيك إلى «دموع معلقة» والزهريات إلى «مقابر للورود».

الوحدة تمنح هدايا، كالتأمل، كالمعرفة، كالبصيرة، لكنها هنا فى ديوان خير وحدة قاسية، مؤلمة، تفرغ كل شىء من معناه التام، تتحول من فعل عطاء إلى فعل استلال، لكنها أيضا تظل فعلا متمردا على بروزة الأشياء، تلك «البراويز التى تسجن اللوحات ـ والمسامير التى تدميها».

هل اللوحة فارغة؟ جميلة؟ دميمة؟ وهل حياة بعضنا كأسرى الذكريات أمر يستحق أم أننا نسعى لـ«تزويقها»و«تلوينها» من أجل «تدخينها» فيما بعد؟ أسئلة تظل معلقة، تدور كصاحبها فى الدائرة الفارغة، وتنتظر أن نجد لنا وله المخرج، بعد أن نعرف أن «المزاليج ـ لا تمنع اللصوص ـ فقط تحرس الطمأنينة ـ وأن المراوح ـ لا تصنع الهواء ـ تستخدم المتاح منه ـ وأن المشاة فى الشوارع» صائدى الذكريات ما هم إلا جامعى أوهام.

محمد خير مواليد 1978 «هدايا الوحدة» هو ديوانه الأول بالفصحى بعد ديوانين بالعامية عن دار ميريت «ليل خارجى» و«بارانويا» ومجموعة قصصية بعنوان «عفاريت الراديو» عن دار ملامح، وكتب العديد من الأغنيات للمغنى اللبنانى «زياد سحاب» يبدو كفنان يحاول دائما اختراق فضاءات جديدة للتعبير، يبدو هذا من تنوع إصداراته، وكمثقف وقارئ جيد ومدرك بموهبة وبصيرة لسر الكتابة، ليس من المستبعد أن يفاجئنا بكتابة رواية، لكنه فقط ربما يكون فى انتظار اختمار «التجارب التى يفتقر إليها عشاق المقاهى فيكتفون بالشعر»، كما يقول فى قصيدة «اضطرار» التى تؤكد أنه يكتب الشعر بديلا عن الحكى، فيستفيد بشكل جيد من آليات السرد السمة الأساسية تقريبا فى قصائد النثر.

نشر في جريدة الشروق
بتاريخ 19 فبراير 2010

أشرف عبد الشافي عن هدايا الوحدة

هدايا الوحدة : اغلق باب غرفتك جيدا قبل قراءة القصائد
!

أحمد لله إننى لستُ ناقداً ، فقد كان من الممكن وبسهولة أن أفقد "برستيجى " ومهابتى ووقارى وأنا اقرأ ديواناً كهذا!، فمع أول قصيدة وجدتنى أصرخ لاعناً الشاعر وسنينه لعناً حقيقياً وليس على سيبل المدح !،إنها الرابعة صباحا وليس من الحكمة أن يرتفع الصوت هكذا ،فقد استيقظ صغيرى ، ومن حسن حظ هذا الشاعر انه ابتسم ونام!.

أعرف أننى قد أسقط من نظرك الآن ، ولكن ضع نفسك مكانى : شاعر يبدأ ديوانه بقصيدة عن "الكسل"ـ فضيلتى التى أفخر بها ـ ومع أول سطر تشعر كأنه ضغط على الريموت وتركك أمام شاشة عملاقة كى ترى نفسك وتسخر منها بينما هو يشرب القهوة بهدوء : "..المستقبل يعرف كيف يعتنى بنفسه /سيجد منفذاً إلينا /عاجلاً أم أجلا /سيصل إلى هنا ويجلس منقطع الأنفاس /من كل هذا الركض/ فى الاتجاه المعاكس /سيتلفت حوله متاكداً من غيابنا جميعا /قبل أن ينغمس /وحده /فى اصلاح كل تلك الأخطاء ..".

أرأيتْ ؟! ، لم يُعطنى فرصة أحافظ على مهابتى ،باغتنى ،فصرخت كالملدوغ وأنا أرى نفسى متمسكاً بالمستقبل ،حريصاً عليه .. أطارده فى كل مكان ،واحتفى احتفاءً مريباً بهذا المعنى وتلك الكلمة بحروفها المسننة المدببة !! كيف تكتمل متعة الكسل وأنا أعيش كذلك ؟!

ربما تشاركنى جنونى بتلك القصيدة ،فلاشك أنك حريص على المستقبل، وهذا فى حد ذاته عظيم ورائع ،لكن انظر إليه يا صديقى ممدداً كجثة فى تلك القصيدة !

هذا شاعر ملعون بلاشك ،لم يعطنى فرصة كى أُقلب ـ كما العادة ـ فى الديوان ،جذبنى من ياقة قميصى كتاجر شاطر يعرف أن البضاعة الجيدة تستحق فاترينة عرض لائقة .

كلمة "بضاعة " ستثير ثائرة حراس مدينة الشعر المهيبة المحصنة وكذلك النقاد الكبار بالطبع ، ولكن هذا ما فعله الشاعر"محمد خير" بالضبط " فى ديوانه " هدايا الوحدة " الصادر عن دار ميريت : اختار مشتركا إنسانيا ووضعه على وش القفص ،ثم وقف بعيداً يتأملنا ـ نحن القراء الطيبين ـ ويستمتع بالقهوة !.

من فيّنا لا يشعر بالذنب يومياً لأنه مقصر فى شىء ما ، من فيّنا لا تشغله قصة المستقبل حتى وهو يخطو نحو الخمسين ؟! ومن فيّنا لن يضحك وهو يرى " المستقبل " وقد جاءنا ـ بعد كل هذا الانتظار الطويل جدا ـ كهلاً يعانى انسداداً فى الشرايين والأوردة والأوعية ،إضافة إلى خشونة حادة فى الركبتين ؟! .

لا يجد "محمد خير" صعوبة ـ كما تخيلتُ شخصياً ـ فى العبور من بوابة شعر العامية إلى القصة ومنهما إلى الفصحى، فهو من ذلك النوع الذى يملك رؤية للعالم قائمة على التأمل والإخلاص التام له ،ورؤية للكتابة قائمة على البساطة ،والبساطة ليست وصفة طبية ، لكنها "فن" خالص ، يجعلك ـ على الأقل ـ لا تدور حولك نفسك طويلا ، بل تغوص داخلك سريعاً ، فأنا وأنت نشترك فى أشياء كثيرة، خاصة إذا دخلنا المطبخ ،نعم "المطبخ "، انظر معى إلى الأرفف ، وتوقف عند التوابل ، واقرأ قصيدة "سهو " فى الصفحة الثالثة عشر من الديوان ، والأفضل ألا تجهد نفسك بالبحث وتقرأها هنا: "فوق أرفف المطبخ /تركتِ لى /كل هذه العُلب /وقد ألصقتِ فوقها /أوراقك الصغيرة /وخطك الكبير/يشرح اسماء البهارات /بوضوح وصبر /كنت أعرف/أن ها الحنان سيؤلمنى /يوما ..".

لاشك عندى أنك تقف بجوارى الآن وأمامنا الشاشة العملاقة والشاعر لم ينته من فنجان القهوة بعد!.

فى وسط المدينة ،فى أى شارع منها ،ستصادف وجهاً ضاحكاً لطفل يكبر يوما بعد يوم ،بينما مازال يعلق فى كتفه حقيبة جلدية كأنها ميراث وثروة وصديقه جميلة ـ لا يغرك شكلها وهى تتدلى لتقارب ساقيه مفتوحة السوستة أو السوستين ـ هذا الطفل الذى يشبهك تماماً وأنت تعيش "الوحدة " مستمتعاً بها ،هو بطل ديوان "هدايا الوحدة " ، مجنون أنا ،وهل للدواوين أبطال يا جاهل ؟!، لو كنتُ ناقدا جيداً لابتكرت مصطلحا يختصر كل هذه الثرثرة !،لا بأس! ،فلنحتكم إلى القصائد ربما نجد "نظريةً" عن قصة بطل الديوان هذه :" إلى حيث تنتمتين / ذهبنا معا /ثم عدت وحدى .. وهكذا يمكننى أن استمر فى خداع السرير /والتلفاز والشرفة /فأقنعهم /أن غيابك /مسالة مؤقتة "من قصيدة "كان شيئا لم .. "، لا بأس من /تزويق الذكريات ببعض العصافير " قصيدة : سيصدقنا البعض" ،الفقد /ليس شراً كله /الخبثاء /أصحاب التجارب /فى لحظات الوداع/يعرفون ذلك /ينشغلون بالتفكير "قصيدة :من ناحية أخرى"،يقتسمان الوحدة :/المسافر /ورصيف المحطة /كذلك :المريض وسرير المستشفى/الشحاذ /وسور المدرسة/ الأرملة وذكرياتها "بالتساوى".

أليس هذا بطلا واحدا يكتوى بالوحدة ويستمتع بها ويلاعبها ويصادقها ؟!.أليس هذا "بطل" يقدم الهدايا لأصدقائه البائسين فى عالم الوحدة ؟!، يبحث عنهم فى كل مكان ويواسيهم ؟!، أنا عن نفسى أعانى "الوحدة" وفرحت بالهدايا ؟

محمد خير فى الحقيقة هو صاحب تلك "النظرية" فى الكتابة ـ التى فشلتُ فى ابتكارمصطلح نقدى فخيم يحددها ـ فقد جّربها فى ديوان عامية بعنوان " بارانويا "،وجعل القصائد كلها لبطل واحد يقف فى الشرفة وحيداً ،ويتأمل نفسه فى المرايا مذهولا بالموسيقى ،وأحياناً يرى عصفوراً يحترق على سلك الكهرباء ويتساقط ريشة ..وحيداً أيضا ، وجّربها " محمد خير " بطريقة أقل فى مجموعتة القصصية البديعة "عفاريت الراديو"،ولا تشغل بالك بأنه يكتب الشاعر العامى والفصحى والقصة أيضا ، فهو ـ كما قلت لك ـ لا يجد صعوبة فى ذلك ، يتنقل بينهم بخفة ، لأنه "كاتب" يحرث أرضه بالأدوات التى يراها مناسبة كى تثمر تفاحا أوبرتقالا أو حتى"خس وجزر"،لايستورد التجارب ولا المبيدات ،والعنوان عنده ليس كلمات متراصة أو متراقصة أو جذابة ، أو تسرق عين القارىء !،لكنه "الماستر بيس" كما يقول أهل الفرنجة .. هو المفتتح والمنتصف والختام ، "الوحدة" هنا ـ فى هذ الديوان ـ تلف وتدور فى المكان ،كأنما لحن واحد متنوع ومتعدد ومدهش وبسيط ومضحك ،وأحياناً يصيب ـ أمثالى ـ بهستيريا الصراخ ،فخذ حذرك واغلق باب غرفتك واستمتع بالوحدة.


أشرف عبد الشافي

الأهرام المسائي 17 فبراير 2010

الشاعر هشام الصباحي عن ديوان هدايا الوحدة


هدايا الوحدة .. عشاق المقاهي يكتبون الشعر

هدايا الوحدة تجربة محمد خير الجديدة التي يقدمها إلى خزانة الشعر العربي على شكل ديوان قصيدة نثر بالعربية الفصحى عن دار ميريت بالقاهرة في طبعتها الأولى عام 2010 ..محمد خير كتب من قبل الشعر في هيئة العامية المصرية وقدم ليل خارجي عام 2002,بارانويا عام 2008.. اليوم يخرج علينا مرتديا هدايا وحدته ويقدم نفسه والهدايا بالعربية الفصحى وليس بالعامية المصرية كما اعتدنا أن نراه ويرى نفسه من قبل ..عبر قصيدة نثر مصرية.. وهنا في هذه اللحظة لابد أن ينبت سؤالا تقليديا لماذا فعل محمد خير هذا؟ وهل هذا التغير يمكن أن يُعد تطوراً من العامية إلى الفصحى؟..وهل اكتشف خير أن تجربته الشعرية على هيئتها العربية الفصحى سوف تكون مقروءة أكثر في البلدان العربية التي يذهب إليها كصحافي وكاتب وشاعر؟ ..لذا أراد أن يتواصل أكثر مع بقع متعددة تكون بقعة كبيرة أكثر رحابة وتعددية تدعى تاريخيا الوطن العربي..
في الحقيقة إن الأمر برمته شائك ولابد أن تتوالد على جنباته العديد من الأسئلة و سوف تنبت مثل الأشواك على جانبي الزهور وتجعلنا عندما نتحسس الزهر الشعري تدمى أصابعنا ونتعلم بالدم خيارات جديد في التلقي والتذوق.
سوف يكون السؤال المطروح قديما وجديدا مع هذا الديوان أيهما أكثر استيعابا للتجربة الشعرية وأكثر تواصلا مع الآخر.. العامية المصرية أم العربية الفصحى للشعر المصري خاصة وتجربة شعراءه في اللحظة الراهنة
إن الشرك والخديعة الأولى التي قام بها بكل احتراف الشاعر محمد خير المتآمر علينا كانت في العنوان الذي يصلح بنفس الجودة الفنية أن يكون بداخله أشعار عامية أو فصحى وقد ساعده على هذا التآمر علينا نحن النقاد والقراء الغلاف الرائع للفنان المتآمر دائما حتى على نفسه ليحصل على لوحة فنية وغلاف فريد لكل كتاب على حده و مختلف عن الآخر الفنان احمد اللباد صانع الغلاف ,واحد أهم جنود خديعة القارئ ليسقط في براثن شعر جميل وتجربة رائعة تعبر عن الإنسان فقط ,حتى وإن ظهر على الغلاف أربع أشخاص هم في حقيقة الأمر إنسان واحد..شخص واحد.. يأخذ وضع المشي في اتجاهات مختلفة وبألوان مختلفة .
في الديوان آليات وتقنيات شعرية هي ثمار أصيلة لقصيدة النثر المصرية ونظيرتها العالمية حيث التوازي المتعدد مع تقنيات القصيدة على اختلاف أراضيها الجغرافية أو الثقافية والدينية ومنها تقنية إعادة اكتشاف الكون ومكوناته والأشياء الصغيرة والكبيرة التي تخصنا وإعادة تعريفها من جديد وتقديمها من خلال النص الشعري النثري وهذه التقنية هي واحدة من أهم خلاصات التقنيات الشعرية في قصيدة النثر ومن الأمثلة على هذا عند خير الشرفات التي لم تتذوق طعم المطر,والمزهريات التي أصبحت في قاموس الشاعر والانسانى مقابر للورد,البراويز التي تسجن اللوحات, المسامير التي تدمى البراويز, الجدران التي تبتلع المسامير,الطلاء الذي يخفى الجدران,الشمس التي تفتت الطلاء, وفى ص 42 يتجلى ويكتمل الأمر
بيوتنا
متلاصقة
-رغم الكراهية-
بقوة الأسمنت,,
الشبابيك
تلمع في الواجهات
كدموع معلقة,,
إن الحكى الشعري الذي يتحول إلى سردٍ صافٍ يخص قصيدة النثر فقط تستطيع أن تشعر به وتحسه وتتذوقه ولا تستطيع أن تمسك به أو تكتشف قانونه الخاص الذي يفْرقه عن سرد الرواية والقصة القصيرة وكل الفنون الكتابية الأخرى ,
يتضح هذا ويتجلى في قصيدة "احتفالها السرّى ص 45 "
إن الفلسفة واستخدام المعادلات الرياضية والذهنية الجمالية كانت من أهم التقنيات الجمالية التي نمت وعاشت داخل ديوان قصيدة النثر هدايا الوحدة وربما تكون هي أهم الإضاءات الإنسانية التي سوف يسلمها الديوان إلى أصدقاءه الشعراء وسوف تتجلى في نصوص العديد من القادم, ومن النماذج المهمة لهذا في ديوان خير وهى معادلة تشابه المصائر مع اختلاف الحالات حيث يقول ص49
سعداء
لا حاجة بهم
للأحلام,,

يائسون
لا طاقة بهم
للأحلام,,ا
إن المكاشفات وخلاصة التجارب ومفاتيح الفهم الانسانى في لحظته الراهنة شديدة القتامة والتعاسه احد أروع تقنيات الديوان ويتجلى هذا في قصيدة اضطرار ص 59 حيث يقول ويكشف ويعترف
تأليف الروايات
يحتاج إلى تجارب
يفتقر إليها عشاق المقاهي
فيكتفون بالشعر,,,
إن حالة الديوان تتناقض تماما ظاهريا مع ديوان سيد حجاب الأخير في الصياغة الشعرية حيث أراد سيد أن يكون أكثر صياحا وعاميا وأراد محمد أن يكون بلا صوت وخاص جدا وفصحى ولكن تظل
ترجمة بهاء جاهين الشعرية لشكاوى الفلاح الفصيح واقفة في المنتصف ,حيث التعبير عن عام ومتواصل يبدو من القراءة الأولى خاص ..هذه التجارب تذكرت الرابط بينهم أنهم ثلاث شعراء من قلب مصر ولقلب وروح الإنسان سواء كان مصريا أو لا,والثلاثة لهم ثلاث دواوين عن نفس الدار ميريت,وفى نفس العاصمة العربية ..القاهرة.

هشام الصباحي
31-1-2010

Wednesday, January 27, 2010

ديوان هدايا الوحدة في السفير اللبنانية : نكتب لنقول أننا مررنا من هنا


نشر الحوار في السفير اللبنانية بتاريخ 26/1/2010 ، أجرت الحوار : عناية جابر


في قصيدتك، وبشكل عام في أغلب إصدارك الصادر حديثاً «هدايا الوحدة « عن ميريت، ثمة الوحدة كتيمة أساسية تنهض بالقصيدة . هل تذكّر الحب، أحلى من حلوله وعيشه فعلاً؟ هل القصيدة أكثر امتلاء في النقصان الفادح للحب؟

لا شيء يمتلئ في النقصان، ولا تذكّر الحب أحلى من عيشه، لكننا أثناء الحب لا ننشغل بشيء آخر، وبعد انقضائه نقوم بكل ما يثبت لنا أننا عشناه حقًا، نتذكر ونكتب ونحكي، ندوّن كما كان يفعل أسلافنا على الجدران كي نؤكد أننا مررنا من هنا، نستعمل ما في الذاكرة من جماليات فننتج كتابة لا تطابق ما عشناه بقدر ما هي صورة لما كنا نحب أن نعيشه، والوحدة هنا ليست سوى استراحة تأمل، وهداياها قد تكون العزاء أو قد تكون السخرية من قابليتنا للزوال.

لماذا الشعر تحديداً؟ لماذا تكتبهُ؟ ثم ما الفرق بين فنية الشعر وفنية القصة القصيرة؟

^ عندما أصدرت قبل عام مجموعتي القصصية «عفاريت الراديو» أهديتها (إلى لحظات ظننتها دائمة)، لكن المجموعة – على عكس الديوان – ضمت نصوصا متفرقة من تجارب قصصية خضتها بنزق المجرّب، الضيف على هذا النوع من الكتابة، المتحرر من عبء تكريس مشوار أدبي في هذا النوع، أما «هدايا الوحدة» فهو ابن تجربته الانسانية والعاطفية المباشرة فكأنه هو الذي كتبني، أو لنقل أن قصائده انسكبت مني دونما إرادة، ليس في موضوع القصائد فحسب بل في لغتها الفصحى التي فاجأتني شخصيا فضلاً عن الآخرين، إذ أن تجربتيّ السابقتين في الشعر كانتا باللهجة العامية المصرية، والفارق بين فنية الشعر وفنية القصة فارق صغير في الروح كبير في التفاصيل، القصيدة والقصة كلتاهما قائم على التقاط اللحظة وتثبيتها، كأنما يطلان من عدسة الكاميرا، لكن بينما تهتم القصة بألوان الصورة ومقاييسها وتاريخها وأسماء أبطالها، يذهب الشعر إلى المعنى القائم وراء الصورة.

أسماء

ماهو موقعك في الوسط الثقافي المصري؟ هل تجمعك صداقات مع الشعراء الشباب في مصر؟ من يلفتك أكثر ولمن تقرأ وبمن تتأثر؟

^ لا أعتقد أن بإمكاني تحديد موقعي الشخصي في الوسط الثقافي المصري لكن أعتقد أنني استطيع الإشارة إلى جيل أنتمي إليه، جيل الشعراء الذين بدأوا النشر بداية العقد الحالي بعد خفوت الوهج الذي صاحب قصيدة نثر التسعينيات في مصر، نحن بدأنا ننشر أشعارنا في «زمن الرواية» ما أضاف مزيدا من العزلة التي تعاني منها القصيدة النثرية، مع ذلك فقد استفدنا – رغم كل شيء – من الرواج الذي أحدثته الرواية في سوق الأدب المصرية، لقد ازداد عدد القراء والمكتبات ومن ثم اتسعت رقعة قرائتنا بالضرورة وإن ظلت ضيقة، أتحدث بصيغة الجمع ما يعني أن لي صداقات متعددة مع شعراء شبان بالتأكيد، لكن من بين أولئك الذين قصدتهم بداية الإجابة يلفتني شعراء وأدباء معظمهم يكتبون نثر العامية المصرية، ربما كان تحيزي لهم تأثرا بتجربتي الخاصة، فمنهم على سبيل المثال عبد الرحيم يوسف ومؤمن المحمدي وحمدي زيدان ورامي يحيى وماهر شريف وعمر طاهر، ومن الفصحى محمد أبو زيد ورنا التونسي ومؤخرا الواعد محمود عزت، أما من الجيل الأكبر فبالتأكيد إيمان مرسال وعماد أبوصالح وياسر الزيات، فاطمة قنديل وياسر عبد اللطيف، وهي عموما أسماء صارت مكرسة منذ زمن ومؤثرة في القصيدة العربية الجديدة

وما علاقتك بالشعر العربي الكلاسيكي عموما؟ هل تقرأ في تراث الشعر العربي؟

^ من إمرئ القيس إلى محمود درويش خيط واحد ممتد تعلقت به منذ بدأت القراءة، لكننا عندما نتحدث عن التراث الشعري العربي تبرق في ذهني لؤلؤتان، أولاهما «قصائد المعلقات»، وثانيتهما شعر العصر العباسي، بيد أن المتنبي أوقعني في مشكلة شبيهة بالتي ورطني فيها غابرييل ماركيز، فكما وضع الأخير حاجزا بيني وبين بقية كتابة الواقعية السحرية لإحساسي بأن ماركيز أخذ هذا اللون الروائي إلى ذروته، فإن أبو الطيب يجبرني على العودة إليه كلما امتدت يدي إلى القصيدة التي انجبتنا، أو كلما بحثت عن اندماج الجمال والحكمة وقوة التعبير.

ليسوا نسخاً

هل تعمل على مشروع شعري خاص، أم تكتب مكتفياً بما يلّح عليك من توتر شعري؟

^ أعتقد أن كلمة «مشروع شعري « يساء فهمها أحيانا، فالمشروع الشعري ليس خطة عمل تستهدف الكتابة وفق كذا، أو عن كذا، أو بالطريقة الفلانية والتأثير الفلاني، بل هو في رأيي البحث المخلص عن الحساسية المختبئة داخل كل كاتب، أثناء رحلة البحث تلك لا نتعرض فقط للتوتر الشعري بل للخداع أحيانا، للتجاذبات المقلقة، أو حتى لغياب الثقة، المسألة هي أن لا ينسى الشاعر – والمبدع عموما – نفسه فيقع في رتابة الحياة ومن ثم رتابة الكتابة، إذا استنفدت الموجودات في غرفتك وفي مكانك بعد فترة، فإما أن تتوقف أو تعيد استهلاكها، أو تلتزم بالبحث عن متع جديدة

ما هو رأيك بالمشهد الشعري العربي؟ هل من أصوات خارج مصر تتوقّف عندها؟

^ محرج هذا السؤال فهو عادة يعيد تأكيد سمعة الشوفينية المصرية، في الواقع فإن غزارة الإنتاج الأدبي داخل مصر وعزلتنا الجغرافية قياسا بانفتاح بلدان الشام على بعضها البعض أو المغرب العربي أو الخليج، كل ذلك يجعلنا نتأخر في قراءة جديد الشعر العربي، لحسن الحظ أن الانترنت ساعد في حل تلك المشكلة إلى حد طيب، مع ذلك فقد توقفت متمهلا عند تجارب أنسي الحاج، وديع سعادة وسركون بولص، ومؤخرا استمتعت بالمختارات التي صدرت في القاهرة لمنذر المصري، أما على مستوى الشبان فقد اطلعت على تجارب لفتني بعضها لكنها لا تكفي كميا كي أكوّن من خلالها وجهة نظر.

هل ترى على ما يقول بعض النقّاد، أن القصيدة الحديثة أصبحت واحدة عند أغلب الشعراء الجدد؟

^ هل قصيدة عماد أبو صالح هي قصيدة إيمان مرسال؟ هل قصيدة أحمد اليماني هي قصيدة أسامة الديناصوري، أعتقد أن في ذلك القول الكثير من التجني والتسرع، ربما مبعثه النظر إلى تجربة نثرية ما زالت بمعيار الزمن تجربة حديثة في مجملها، هم ينظرون إلى زحام النشر كما ننظر نحن إلى زحام شعب ما فنشعر أن أبناءه متشابهون، لكن أفراد ذلك الشعب يميّزون أنفسهم بسهولة، كذلك المنخرطون في التجارب الجديدة يميّزون بين أصواتهم جيدا، وكذلك يفعل المتلقون المهتمون فعلا.

ما رأيك بمهرجانات الشعر؟ كيف ترى الى الجوائز الأدبية بشكل عام؟ كيف ترى الى الملتقيات والمهرجانات، سلبياتها وإيجابياتها؟

^ أرى أن العالم العربي يعيش مهرجانا دائما كعرض متواصل، لذا تضطر المهرجانات لصنع ضجيج أعلى تمييزا لها عن المهرجان الأصلي الكبير، لم أشارك في ملتقيات بما يكفي كي أقيّمها لكنني بصفة عامة أميل للملتقى الذي ينشأ لسد نقص ما «كالملتقيات الأخيرة لقصيدة النثر» بأكثر مما أميل لمهرجانات تكاد تنطق بأنها زائدة عن الحاجة، أما جوائزنا فلا أحد يمكن أن ينكر سلبياتها لكنها سلبيات لا تزيد بصفة خاصة عن سلبيات كل عمل جماعي عربي، مع ذلك فإن بعض الجوائز لها فضل الكشف عن أصوات وعن أعمال كان مآلها – لولا الجائزة – النسيان



محمد خير : الشعر هو الطريقة الوحيدة التي أعرف بها نفسي

حوار حول ديوان "هدايا الوحدة" في الأهرام المسائي


قبل أيام صدر ديوان "هدايا الوحدة" للشاعر محمد خير عن دار ميريت ، الديوان هو الأول للشاعر بالفصحى بعد ديوانين بالعامية، ومجموعة قصصية ، على أية حال فإن هذه تقسيمات شكلية ، فعندما نتحدث عن محمد خير تزول الفروق بين الفصحى والعامية من جهة ، وبين القصة والقصيدة من جهة أخرى ، في هذا الحوار يضع خير كثيرًا من النقاط على حروف تجربته ، يدلي بشهادته حول أمور الإبداع والنشر في مصر ، وكان هذا نص الحوار :

أرى أنك تمارس خداعا ما، هل تتحدث عن هدايا الوحدة أم الفقد؟

سؤالك في محله لأن الاسم الأول والمؤقت للديوان كان يحتوي كلمة "الفقد " بالفعل، لكن القصائد في صيغتها النهائية ، دفعتني أكثر إلى استخدام صيغة الوحدة ، بوصفها المعنى الأوسع الذي يحتوي الفقد في داخله إلى جوار عناصر أخرى قد يكون منها الرغبة الشخصية في العزلة أو عدم القدرة على التكيف مع الخارج ، ثم قادتني الوحدة إلى هداياها ، فوجدت أن صيغة " هدايا الوحدة " قد تحمل العزاء والسخرية معًا ، وبصفة خاصة كان للقصيدة الأولى في الديوان ، قصيدة "الكسل "، الدور الأهم في استقراري على الصيغة النهائية للعنوان .

للزمن حضور لافت في ديوانك رغم قلة، وربما انعدام، الإشارة إلى الوقت .. كيف ترى موقعه من تجربتك؟

لا أحب الإشارة للوقت كما لا أحب الإشارة إلى أماكن أو أسماء بعينها ، أو للدقة لا أحب " تحديد" وقت أو مكان أو اسم معين ، سواء في "هدايا الوحدة " أو في أي عمل آخر لي ، أحب أن أترك النص يحلق خارج الأسماء والتواريخ ليناسب كل شخص ، مع ذلك فإن الزمن هو مادة الحياة وهو المؤثر في كل ما نتوصل إليه من فلسفاتنا أو أوهامنا الصغيرة، الشعر في رأيي هو محاولة كل شاعر إنتاج حكمته الخاصة ، وهي حكمة لا معنى لها بغير اختبار الزمن .

كتبت ديوانا عن البارانويا .. وديوانا عن الوحدة .. هل ستعمد إلى تكرار الكتابة على تيمة محددة؟
لم أكتب هذا ولا ذاك استهدافًا لتيمة محددة ، لكني عندما أكون بصدد تجهيز ديوان جديد، أحاول اختيار العنوان المعبر عن المجموعة الشعرية بأكملها ، أحاول اختيار الاسم المناسب لشخصية الديوان ، لذا فقد استبعدت عدة نصوص من "هدايا الوحدة " لأنها كانت خارج حالة العنوان المعبر عن الحالة ، ومن ثم كانت خارج حالة الديوان نفسه .

الجميع يتحدثون عن البساطة التي تتسم بها أعمالك .. هل تراها أنت كذلك؟
في الواقع لم أسمع وصف البساطة من الجميع ، لكني مع ذلك سمعته بما يكفي ، وها أنت تؤكده ، وليس ذلك مفاجئًا على أي حال لأن البساطة نفسها إحدى أهم عناصر إعجابي بأي عمل فني ، ما أعرفه هو أنني أحاول أن تكون كتابتي أيًا كان نوعها كتابة انسيابية تأخذ القاريء معها وتقترب به من روح النص بلا تشوش ، أبذل في ذلك جهدًا كبيرا قدر ما استطعت ، وقد كتبت بعض نصوص "هدايا الوحدة " أكثر من عشرين مرة لأصل إلى أصفى تقطير ممكن .

هل تأثرت بعملك الصحفي؟

بالتأكيد ، وقد حاولت أن يكون التأثير إيجابيًا في مجمله ، العمل الصحفي من عيوبه أن قد يدفعك في دوامة الكلمات يوميًا حتى تخشى أن تفقد معناها ، لكنه أيضًا قد يعلمك أن الكتابة ليست دائما تلك الحالة المزاجية الهائمة ، وأنها مثل أي نشاط إنساني قابل للتحسن بالمران والمثابرة .


هل تعد نفسك شاعرا ناجحا؟ وهل تهتم بالجماهيرية؟

يبدو أنه لا مفر من تلك العلاقة الأزلية بين النجاح والجماهيرية ، وفق تلك العلاقة فأنا لا أعرف إن كنت ناجحًا في المطلق ، لكن اعتقد أنني أتحسن ، ذلك شيء يمكن أن تلمسه خطوة بخطوة ، من ردود الأفعال ، من القراءات النقدية ، من معدل توزيع كتابك ، كما أن كلمة جماهيرية فيما يتعلق بقصيدة النثر كلمة تحتاج إلى الكثير من الحذر في تناولها ، بالنسبة لي فالنجاح هو أن أعثر لنفسي كل يوم على خطوة جديدة أخطوها ، وأن أظل مستمتعا بما أفعل .

هل الكتابة قرار؟

الكتابة قرار بصورة إجمالية وليس بشكل جزئي ، مفهوم القرار هنا لا يعني أن تقرر كتابة قصيدة فتجلس لكتابة قصيدة ، وإنما المعنى أنك لو كنت كاتبًا من الأصل ولديك الموهبة ، قد تقرر في مرحلة ما أن تتفرغ للكتابة أو تضعها أعلى سلم أولوياتك أو تجهز الظروف الحياتية المناسبة لها .. إلخ ، ذلك هو ما سيضعك في مناخ نفسي ومعيشي عام قد يرفع لديك حساسية التقاط المعاني وللكتابة ، وطبعا العكس صحيح ، قد يقرر شحص أن يتراجع عن أولوية الكتابة في مرحلة من حياته ، فهو قد "قرر " هنا أن لديه الآن أشياء أخرى أكثر إلحاحًا ، هو في تلك الحالة لن يستطيع غالبًا أن يكتب نصًا جيدًا حتى لو جلس إلى الطاولة كل يوم ، طبعًا تبقى هناك استثناءات دائمًا ، لكن يبقى أن قرار الكتابة هو بصفة عامة الاخلاص لما تفرضه من واجبات .

هل أنت هاو أم محترف؟

من أصعب الأشياء الحفاظ على تلك اللحظة الحرجة بين الهواية الاحتراف ، بوصفي كاتبًا صحفيًا فإن الكلمات عموما هي مصدر رزقي وبالتالي فأنا محترف بهذا المعنى ، أما فيما يخص الشعر والأدب فأحاول أن أن تقتصر "الاحترافية" هنا على معنى العمل الجاد والمثابرة ، أما الهواية فهي حرصي على أن لا تصبح الكتابة مصدرًا للضيق أو النكد ، أن استمتع بها قدر ما استطيع متنقلا بين خبرات وتجارب وأنواع كتابة متعددة .


كيف ترى العلاقة بين الكاتب والناشر؟

على الرغم من الاتساع النسبي لسوق النشر الأدبية في مصر السنوات الأخيرة ، إلا أن العلاقة بين الكاتب والناشر في مصر لازالت شخصية في كثير من الأحيان ، وسوف تظل كذلك طالما ظلت النخبة الأدبية ضيقة جدا نسبة إلى تعداد 80 مليون مصري ، ستظل العلاقة بين الكاتب والناشر تشهد اختلاط الثقافة بالصداقة بالبيزنس ، إلى أن تتسع النخبة ويزداد جمهور القراء والمبيعات فتصبح دور النشر قادرة على اتباع النسق المؤسسي بغض النظر عن العلاقة الشخصية بين الكاتب والناشر ، وأقصد هنا العلاقة الشخصية بحلوها ومرها ، بكل ما تشهده من غضب ومن عشم ومن محايلات من أجل طباعة الكتب ، وأنت في النهاية لا تستطيع أن تلوم كاتبًا يشتكي تأخر طبع كتابه مثلا ، ولا تستطيع في ذات الوقت لوم ناشره الذي يريد تحقيق العائد الأدنى كي لا يضطر للإفلاس بعد معرضين .

هل ترى أنك تنتمي إلى جيل ما؟ تجربة ما؟ حساسية .. مدرسة ما؟

أعتقد أنني ومعظم من بدأوا النشر مع بداية العقد الحالي نعد امتدادًا لقصيدة النثر المصرية في التسعينيات، بشقيها الفصيح والعامي ، وإن كنت أعتقد أننا تخلينا عن بعض الصرامة النثرية التي ميزت اسلافنا التسعينيين ، عادت الصورة الشعرية وعادت بعض بلاغيات خجولة كما أن التفاصيل المباشرة واليومية قد تراجعت بعض الشيء لصالح روح تحاول تشكيل نظرة شاملة للعالم ، مع ذلك فإن الوحدة والعدمية لازالت تسم القصيدة النثرية حتى في طبعاتها الجديدة وهي سمة عالمية في كل حال .

متى يمكن أن تتوقف عن الشعر؟

فاجئني هذا السؤال إذ لم يخطر ببالي قط مثل هذا الاحتمال ، لا أعتقد أن قرارًا كهذا يمكن أن أتخذه إراديًا إذ أن الشعر هو أبكر شيء مارسته بانتظام في حياتي ، وكوني شاعرًا هي الطريقة الوحيدة التي أعرف بها نفسي .

أجرى الحوار .. مؤمن المحمدي

نشر في الأهرام المسائي بتاريخ 23 يناير 2010