Saturday, July 3, 2010

عفاريت الراديو .. سرد المنفلت

د.أماني فؤاد .. أخبار الأدب
عدد الأحد 4 يوليه 2010



تتميز مجموعة " عفاريت الراديو " لمحمد خير في قسمها الأول " لمح البصر " بالتقاط مشاعر مبهمة في الحياة، لحظات قصيرة وعابرة للغاية، مهمشة ولها قدرة علي الانفلات والتلاشي السريع، فيأتي " محمد خير " بحسه الشعري والسردي ليلتقط هذا الوجود اللحظي العابر ويصوغه فيما يشبه تجهيز الشريحة المعملية الكشفية، فيقبض علي اللحظة برقائق من الزجاج الشفيف، ويضعها تحت الميكروسكوب الفني الإنساني، ليري ما لا يُري بالعين المجردة، أو بالمشاعر والأحاسيس العابرة، يوقف اللحظة أو الزمن ليضع قيوداً حريرية في معصمي نور المناطق الوجدانية بالبشر، ليُبقي علي العابر، ووقتها قد يدرك الإنسان ذاته، ويزداد فهمه لها . إنها كتابة تأخذ من الأقصوصة شكلها الفني بكل ما يفرضه من آليات سرد والتقاط للتفاصيل . والأقصوصة فن خرج من رحم القصة القصيرة لكنه مغاير له .
1
يغوص " محمد خير " في الداخل الإنساني شديد التعقيد، لا علي نسق التحليل النفسي العميق، أو تتبع تاريخ التجارب الإنسانية في تأثيراتها الاجتماعية أو الثقافية المتنوعة، ولا غيرها من آليات، لكنه يلتقط فيما يشبه الحياد البارد نقطة واحدة في حياة الفرد الإنساني، خلية بشرية واحدة إن صح التشبيه، حين تتقاطع فيها مجموعة من العوامل مجتمعة، وغير مقصود اجتماعها علي هذا النحو في حياة الفرد، شأن حياة البشر الواقعية، مثل ما صنع في قصتيه " فادي " و " لم نفكر " وفيهما يكشف " محمد خير " عوامل كثيرة ومتعددة، تتقاطع لتصنع هذا الوجود الملتبس، في شخصية فادي الذي يخترع وجود توأم له فيسقط عليه أخطاءه ونزواته، أو وجود هذه الأنثي التي ربما لو حدث بينها وبين السارد علاقة متحققة، لأنجبا معاً هذه الطفلة التي تحمل ملامح كليهما، وفي قصة " لم نفكر " يصور القصاص منطقة ضبابية بين الإرادة واللاإرادة ويشكل مجموعة من التباديل والتوافيق علي مستوي الداخل النفسي المتخيل، لكنها لم تتحقق نهائياً بالواقع ذاته .
ولقد لاحظت أن هناك غوصاً متعمداً في مكنونات ومنعطفات الداخل ومناطقه المنزوية، وإلقاء الضوء الفني عليها في مقابل الكف النسبي عن الخارج الهمجي القامع، الذي لا قدرة للإنسان الفرد علي التناطح معه، لضعف الكائن البشري أمام هذه الآلة الأمنية المتضخمة والقاسية التي تتحكم بالمجتمع في لحظته الراهنة .
2
وتتنوع تقنيات القص في مجموعة " عفاريت الراديو ":
في قصته " في شارع خاتم المرسلين .." يستخدم القصاص تقنية سردية تتسم بالتوازي، حوار من طرف السائق وتعليق أو انطباعات داخلية من جهة السارد، وفيه نلمح عدم التواصل أو البون النفسي الشاسع بين الشخصيتين، لكننا أيضاً نشم رائحة الموت من خلال عبارات السائق، وما سيعانيه بالفعل بعد دقائق وهو ما عبر عنه السارد بالقلق الطفيف الذي لا يعرف سببه، وأن حياة السائق في الختام كما يلمح عنوان القصة، منطقة ضبابية لا نستطيع أن نحددها، لكننا يمكن أن نستشعرها أو تقع في منطقة الحدس الإنساني، منطقة حائرة في ذلك المشهد لا يمكن التيقن من حدوثها، وفي مثل هذه المنطقة الحدسية الغائمة تقع قصة " عصبية ككل العجائز ".
ويمتلك القصاص قدرة تهيئة الطقس المناسب لكل قصة من مجموعته من خلال المفردات اللغوية والتراكيب الخاصة، فيأخذ بقارئه حثيثاً لعوالم قصصه في مرونة وتلقائية محببة، مثل صنيعه في قصة " عفاريت الراديو " حين يلعب بالظلال منذ السطور الأولي بالقصة، يقول " لم تكن الغارة تعني لي سوي عدد هائل من الشموع فوق الطاولة الخشبية التي تتوسط الصالة، كنت ألهو وقتها مقترباً ومبتعداً عن الطاولة، أقترب منها فيكبر خيالي علي الحائط، ويصغر عندما أبتعد " ص ثم يتحدث عن الظلام ويستخدم مفردات وتراكيب من قبيل تغوص، تنبعث الأصوات في العتمة، يبدأ بصري بالزوغان وهكذا . وتصور القصة الخيال البشري الطفولي الجميل في مشهد ينتهي بمفارقة معبرة، للدلالة علي بقاء التصورات الطفولية المتخيلة في الشخصية الإنسانية مهما تقدم بها الزمن، نفس هذا العالم الطفولي الذي يصوره في قصة " مفاجأة مشتركة " وتلك المخاوف الفطرية من الثعابين والعقارب .
وفي قصته " ظلال وهمس " لا يدخل القاص قارئه منطقة أو طقس الجنس المعهود لكن هواجس المتردد في ممارسة هذه التجربة، الحالم بسياق خاص تتردد فيه بعض الذكريات عن تجربة مرت بحياته في لحظة ما، ولذا يأتي القص من خلال مزاوجة بين حلم وواقع مغاير يختلفان ويتلاقيان في آن واحد، منطقة من الاندياح بين الاثنين، يعضد تصوري هذا صياغة القص بطريقة توحي بتصحيح السارد لنفسه ودقائق مشاعره يقول " وتلمح ظلاً يتحرك بسرعة علي الحائط المواجه، ثم تتبين أنه ليس سريعاً جداً وإنما أنت متوتر أكثر من اللازم " ، ولذا يلجأ القصاص أيضاً لبعض الصور المجازية مثل قوله " وأحاديث متخيلة تخرج من الجدران " ، ويستخدم القصاص محمد خير ذات الصور المجازية في قصة " حدود نهاية الشارع " يقول "... أهبط من فوق الرصيف وأنفض عني الغبار، وأحكي لها فأتقن التقمص " ص58، وتستمر سردية هذه القصة في لغة شاعرية، وتبدو لغة السرد فيها كأنها فراشة لا تلبث أن تستقر علي زهرة الحكي أو قصة الحب الرومانسية، ثم تفارقها، لتحلق تحليقة أخري في أزمنة متغايرة، لتلتقط إشعاعات أو تقاطعات لحظة زمنية منصرمة مع لحظة آنية معاشة، من خلال مشاهد ولقطات شديدة العذوبة، لكنها مشاهد حية تحكي بدايات قصة حب رائقة في بداياتها الناعمة .
3
واللغة المجازية في المجموعة مكتملة ولا تطلب لذاتها، تتكثف في إحدي القصص مثل القصة السابقة أو تأتي عرضاً حين يستدعي الأسلوب هذا التعبير المجازي مثل قوله في قصة " ضوء المصعد " " وبدا كأنني علقت في بقعة خارج الزمن " ، أو قوله " وأن الوحدة لا تتوقف عن إنجاب الهواجس " المجاز هنا يقترب من اللغة التقريرية في استخداماتها الرائقة العميقة، وأتصور أن المعني الذي يريد أن يقبض عليه القصاص ويجده في مناطق غير مطروقة كثيراً في القص وهي التي تستدعي تلك التعبيرات المجازية العفوية غير المستدعاة بالرغبة المتعمدة من القصاص في التباهي بصياغتها، استدعي القصاص هذه التعبيرات المجازية لأنها تعبر عن الحقيقة كما يتخيلها، فلغة المجموعة يغلب عليها اللغة التقريرية التي تصب مباشرة نحو أهدافها التعبيرية .
في قصة " الشئ بالشئ " يجمع القصاص بين ثلاث لحظات متداخلة : السرد لحظة القص التي تصور مشهد الموت، وخصوصية علاقة السارد بالمتوفاة الأجنبية، وتاريخ العلاقة ذاتها في إطار علاقة مجموعة من الأصدقاء، ينفذ القصاص ذلك من خلال متوازيات ثلاثة يتقاطعون في لحظات سرد متوالية ومتداخلة بانسيابية في بعض المواضع، أو بقطع مفاجئ في مناطق أخري، وفي ظني أن القصاص بهذه الآليات السردية يحاكي الحياة، مصوراً لما يحدث بها بالفعل، ما نتوقعه وما لا نتوقعه لكنه يحدث مفاجئاً وعلي غير انتظار .
وتبدو نهاية قصة " علي رصيف واسع " نهاية إرتدادية تتكرر بها نفس أحداث وجمل القصة في أولها وآخرها، كانت الجمل والأحداث في البداية مبهمة غير محملة سوي بذاتها، بكونها مرسومة علي هذا النحو، لتأتي النهاية وتتكرر نفس الأحداث وتقريباً نفس الجمل، لكنها في هذه المرة قد حملت بالسياق الذي أوجدها ودلالة حدوثها، كما أضيفت لها ملاحظة السارد لهذه النقطة الدائرية البيضاء في عين السائق والتي أتصور أنها ترمز لهذه المنطقة التي لا نستوعب فيها الآخرين، ولا نري فيها وجودهم، تلك المنطقة التي تعد من أخطر عيوب الحضارة الإنسانية .
4
تحمل مجموعة " محمد خير " اسم إحدي قصص القسم الثاني " عفاريت الراديو " هذا القسم الذي يأخذ عنوان " هجرات مؤقتة " ، ولو تفحصنا قصص هذا القسم لتبادر إلي الذهن أن الهجرة حتماً ستتم في عنصر المكان وبعد القراءة سنكتشف أن كل الهجرات تتم بداخل الذات الإنسانية هجرة من الصمت والحياد في " ضوء المصعد " و"ورقة بيضاء مطوية " ، أو هجرة من التخيلات الطفولية البريئة وعوالمها الثرية في " عفاريت الراديو " ، أو هجرة من علاقة منتهية في " ألوان البالونات " مثلما تتطاير البالونات الملونة بيد الصبي، أو هجرة إلي علاقة قديمة، هجرة إلي الذكريات في " ظلال وهمس " ، هجرة إلي التماس عذر عند الآخر في " علي رصيف واسع " ، أو هجرة قدرية إلي ما يأنف منه الإنسان في " قطة في مطعم صغير " ، أو هجرة إلا الاستسلام لطقس أمني بعد ثورات متكررة في " ممطر شتاءاً " أو هجرة إلي ما يفرض علي الإنسان لا ما يريده لطمعه أو طمع الآخرين في " عشرة جنيهات " ، أو هجرة إلي تذكر علاقة كان من الممكن أن تحدث لو لم تتدخل مقاطعات قدرية من آخرين في قصة " الشئ بالشئ ".
ولقد أضاف القصاص لفظ مؤقتة إلي الهجرات لأنها منسوبة إلي الداخل الإنساني وهو متغير متقلب، لا يضمن له أحد أي ثبات أو تواتر كما يصوره القصاص ويعبر عنه، وهو ما يتفق مع علم النفس الحديث ونظراته في النفس الإنسانية .
ويتفاوت ويتنوع دور العنوانات في قصص المجموعة لكنها جميعا تُعد ركناً أساسياً في بناء القصة وتكوينها الهندسي فهي موظفة لأغراض متنوعة، أحياناً يأتي العنوان وتكون مفرداته جزءاً من بداية القصة وإستهلالاً لها، أو خاتمتها أو دالاً علي عنصر المفارقة فيها، أو تعليقاً عاماً علي القصة مثل " موعد لن يتكرر " أو مفهومها ودلالتها المحتملة .
ولذا تقع العنوانات جميعها في القسمين " لمح البصر " و"هجرات مؤقتة " ما بين انفتاح العالم النصي وإنتاج دلالته، أو جعل القصة ذات وجود امتدادي يحتوي نهايات متجددة .
ولذا يغلب علي المجموعة طابع الزمن اللحظي المنفتح، زمن اللحظة التي تكتنز بما قبلها أو ما سيأتي بعدها، هي لحظة نتاج الماضي والحاضر والمستقبل، كما أنها لحظة فردية وغير فردية في ذات الوقت، لحظة يصنعها الفرد في علاقته بالمجموع أو بالآخر .
اختصت هذه المجموعة بخبرات وتجارب لم تزل شابة، تلقائية وفطرية لم تثقل بتجارب السنين فادحة البصمات، غائرة العلامات في الشخصية الفنية، ولقد اتسق هذا مع تجارب القصاص الشاب وقراءاته التي لم تزل في طور التشكل المستمر، لكن تجربته القصصية تنبأ برغبته في ارتياء مناطق غير مأهولة في النص القصصي القصير مستخدماً هذه التقنيات الفنية المتنوعة، وهذه النوعية المميزة من الانفعالات في حال تقاطعها .
وتتضمن المجموعة خروجاً من الداخل الإنساني الفرد إلي إشارات إلي تفاعل الفرد مع المجتمع، في تشابك محدود، انطلاقات صغيرة لكنها عميقة ومعبرة، مثل قصتيه " ممطر شتاءاً " أو " تقاطع " وتصويره لتأثيرات المنظومة الأمنية علي الفرد في المجتمع الذي نحياه، أو تصويره لتحولات المجتمع المصري وسيطرة الفكر الأصولي الرجعي عليه في قصته " في أي وقت " ، وفي هذا النص يتعامل القصاص مع الحدث الذي يتم حكيه كأنه حادث افتراضي يمكن أن تتعدد مرات حدوثه ليصور طغيان ووطأة هذا الاتجاه في مقدرات وأحوال المجتمع المصري، وليصور في ذات النص أيضاً رثاء القصاص لحالة من الود والألفة والأريحية كانت تظلل الأجواء العامة في المجتمع المصري قبل تفشي هذه الأفكار والجماعات المتشددة به، فهو يرثي مجتمع لا يتقبل تمايزاته، وتعايش الأفكار والحريات به
لم تطَّرِد تلك الذبذبات الشعورية المتوترة والمتجددة بكل قصص المجموعة وتتفاوت قدرة القصاص علي التقاط هذا العابر ورصد المغاير فيه، وارتفع هذا الحس الإنساني في بعضها وانطمس بعض الشئ في قصص أخري، لكن هذه المجموعة تنبأ بميلاد قصاص له بصمة قصصية مميزة
.

1 comment: