Monday, March 8, 2010

الشاعر الكبير بهاء جاهين عن هدايا االوحدة

كلمة
هدايا الوحدة
بقلم: بهاء جاهين
إنسان مفرد‏,‏ لاصحبة له إلا ذكري‏.‏ هكذا يتبدي المتكلم في قصائد ديوان هدايا الوحدة لشاعره محمد خير‏.‏ كل شيء صامت حوله‏,‏ والحديث موجه للمطلق‏.‏ هكذا تتنزل القصائد في لحظات الصمت‏.‏

وهي هدايا حقا‏,‏ وهدايا قيمة‏,‏ ولايستثني من ذلك إلا القليل‏.‏
مفردات القصائد‏:‏ حبيبة غائبة‏,‏ وسرير وجدار وسقف ومطبخ‏,‏ ولايتجاوز ساكن القصيدة عادة حدود المكان الضيق إلا الي الشرفة‏:‏
فوق أرفف المطبخ
تركت لي
كل هذه العلب
وقد ألصقت فوقها
أوراقك الصغيرة
وخطك الكبير
يشرح أسماء البهارات
بوضوح وصبر‏..‏
كنت أعرف أن هذا الحنان
سيؤلمني
يوما‏..‏
ومفردات منزلية أخري‏:‏ مثل الدولاب‏,‏ مزلاج الباب‏..‏ أبعد مكان يذهب اليه أنا المتكلم سور حديقة في مكان ما مبهم‏,‏ ومعه الحبيبة‏.‏ والشاعر لايشير الي تلك المرأة بصفة حبيبة ولايشير الي نفسه بصفة شاعر‏,‏ فبينما تزدحم الغرفة بالحضور والغياب‏,‏ لا اشارة الي ورقة أوقلم‏,‏ ولاحتي كتاب‏,‏ ولا اسم للمحبوبة ولاصفة‏.‏ هذا التجريد يجعل النص أرحب وأدعي لتوحد القاريء مع الكاتب‏,‏ أو بالأحري‏,‏ المتكلم‏.‏
ومن النماذج الرمزية القليلة في الديوان تلك القصيدة عن سور الحديقة‏:‏
في لحظة ما
استندنا سويا
إلي سور حديقة
لم يكن الطلاء
قد جف بعد‏,,‏
مؤخرا
مررت من هناك‏,,‏
نظرت
رأيت أثر جسدينا
في الحديد
الذي كان لامعا
يومنا‏..‏
لاتسيئي الظن
أعادوا طلاء السور
مرارا
بعد تلك المرة
‏..............‏
لكنني
مازلت أميز أثرنا
رغم ذلك
لي عدة ملاحظات‏:‏
أولاها أن هذه القصيدة الرمزية‏,‏ النادرة بالنسبة للديوان‏,‏ تتمتع برمز بكر طازج ورقيق‏,‏ وأنها من فرط رقتها وشجوها تكاد تحس وراء سطورها بحرا غنائيا مجهولا من بحور الشعر العربي‏,‏ بينما هي مجرد جمل من النثر مجزأ كل منها الي ثلاثة او أربعة سطور‏.‏
والقصيدة الواحدة التي يشير فيها الشاعر لنفسه صراحة علي أنه شاعر هي قصيدة الكسل‏,‏ التي تعتبر مفتتحا للديوان‏.‏ يقول محمد خير‏:‏
معظم تلك القصائد
خضتها
بدلا من خوض الحياة‏,‏
أنا مدين إذن
للكسل
لاتناقض هنا بين حضور الشاعر بصفته وبين غيابه في الديوان‏,‏ فالاشارة هنا مبررة‏,‏ لأن هذه القصيدة‏-‏ كما قلت‏-‏ مقدمة يشرح فيها منهجه كسكلان لايغادر غرفته إلا بالكاد‏..‏ ربما هذه شخصيته‏,‏ او هو رد فعل مؤقت لانتهاء قصة حب‏,‏ إلا أن السطور التي أوردتها الآن تؤيد الاحتمال الأول‏.‏ وفي تلك العزلة والوحدة يزوره الشعر وهو يحمل هدايا كأي زائر لطيف ودود‏,‏ رغم أنه صاحب بيت‏.‏
يتجلي من كل هذا أن في الديوان وحدة عضوية‏,‏ لأن الحاضر والغائب خيط ينتظم اللآليء كما يقول أمل دنقل‏.‏ المتكلم حاضر والمحبوبة غائبة‏,‏ ولكن حضورها قوي ومتكرر‏,‏ والحاضر أعطاه الكاتب بعض الاستقلال‏,‏ دون أن ينفصم تماما عنه‏,‏ وجعله شخصية درامية تتحدث عبر القصائد‏.‏
وفي كلمتين‏,‏ الديوان جيد‏,‏ والشعر فيه هامس وعذب‏,‏ والشاعر يشتغل في قماشة ضيقة لكنها جميلة التطريز والوشي المنمنم‏,‏ وأنا أرشحه لك لكي تقرأه‏.‏
وهو صادر عن دار ميريت‏.

الأهرام 9 مارس 2010‏

http://www.ahram.org.eg/100/2010/03/09/11/10710.aspx

No comments:

Post a Comment