Monday, February 22, 2010

هدايا الوحدة : عن الفقد الذي ليس شرا كله



فى بنية دائرية «يسرد» محمد خير قصائد ديوانه هدايا الوحدة

من النقطة التى يبدأ منها يعود، يبدأ من نقطة ترتكن إلى أشباح الماضى وتتطلع إلى المستقبل دون أن تسعى إليه فهو «سيجد منفذه إلينا عاجلا أو آجلا ــ قبل أن ينغمس وحده ــ فى إصلاح كل تلك الأخطاء» ليعود إلى نفس النقطة فى القصيدة الأخيرة «فالأشباح تبقى مخيفة حتى لو كانت لأشخاص نحبهم».

دائرة مفرغة، يوهمنا فيها الشاعر أنه يسعى للتحرر بينما هو يتورط أكثر، ولا يصل إلى خلاص سوى باكتشاف معنى جديد لقيوده، أو باكتشاف قيد جديد.

اللقطة التى كشفها غلاف اللباد، المعبر، شاب مطأطئ الرأس، يتكرر بنفس الهيئة أربع مرات على شكل دائرة، يبدأ ليعود إلى نفس النقطة، غير ممسك بشىء، سوى نتوءات تشكلها الذكريات التى «لا تفنى ــ كالماء تسترده السماء لتسكبه فوقنا مجددا»

رغم أن قصائد الديوان تدور بين طرفين، الشاعر وحبيبته التى هجرته أو هجرها فنحن لسنا أمام تجربة عشق، أو فشل عاطفى، ينجو خير من رومانتيكية الحب وصخب الألم، ليكتب عن ما بعد انتهاء الحب والصخب، فى اللحظة التى يصبح فيها الانفصال أمرا عاديا، مسلما به ومقبولا، ببرود يسمح بالتأمل، وبمسافة لا تبتذل جمال ما كان، بتقديسه أو بتدنيسه، بل لقياس الأمر على حقيقته.

«فى لحظة خرقاء ـ استندنا سويا إلى سور الحديقة ـ لم يكن الطلاء قد جف بعد ـ مؤخرا مررت من هناك ـ رأيت أثر جسدينا ـ أعادوا طلاء السور مرارا ـ لكنى لازلت أميز أثرنا رغم ذلك».

بالبساطة نفسها والألفة التى تميز محمد خير نفسه، نصادق قصائده التى تشبهه، سطح برىء يخفى عمقا ثريا، خشن وحاد ربما لقدرته على النفاذ.

على محاولة تمييز الأثر وتلمس شبح الذكرى يتكئ الديوان، يبدو صاحب «ليل خارجى» هنا كمن لا يلمس سوى ما تستطيعه اليد، كأنه لا يود النفاذ من سطح التجربة، إلى ما هو أعمق وأبعد، لكنه ينفذ إليك رغم ذلك، فى حيلة خير ـ الحياتية والفنية ـ الأثيرة، لكن ما رن تعيد قراءة الديوان، حتى تكتشف أنك خدعت وأن خلف السطح البرىء، دلالات لا تنتهى إلا لتبدأ، باستثناء بعض القصائد القليلة التى تعتمد على المفارقة، فينتهى تأثيرها سريعا بمعرفتها، ولا تضطرك لقراءتها أو محاولة استعادتها فى ذاكرتك من جديد كقصيدة «كأن شيئا لم».

لكن حتى تلك القصائد ـ القليلة ـ التى تستخدم تكنيك التصوير الفوتوغرافى، الذى يسعى أحيانا لتسجيل اللحظة بغض النظر عن أهميتها، تساعدنا فى السير معه فى الدائرة المفرغة، التى لا ترغب فى الاكتشاف.

لا يسعى خير لاكتشاف صوفى فى مفهوم «الوحدة» أو «العزلة» فهو لا يكتشف هدايا كبيرة ولا ينتظرها، بل أسباب صغيرة، تروض هذا الوحش المسمى بالعزلة أو التحرر من النوستالجيا، أقلها «حرية إطفاء الهواتف من جديد» وأجملها «طيف امرأة جديدة ملت من هضم الذكريات وتشتهى لقطف الحب من أوله».

رغم ذلك، بالكسل ذاته، الذى بدأ به الديوان، وجعلته «يخوض القصائد بدلا من خوض الحياة» فهو لا يتحرك لاكتشاف المستقبل الذى ينتظره فى طيف امرأة أخرى، يظل حبيس الزنزانة الوحيدة التى لم ينجح فى التحرر منها

تفكيك العالم، الذكرى، التجربة، من حمل ثقيل، غير مفهوم، من عبء كونى، إلى نتوءات، وحيدة، معزولة عن بعضها، تافهة، ربما ليسهل فهمها أو ليسهل تحملها، لنرى أن «الفقد ليس شرا كله»، بل أكثر من هذا تقتنص شاعرية خير لحظة أكثر حدة عن لحظة الوداع نفسها، فهى غير عابئة بالشجن أو التألم رغم سخونة اللحظة، لكنها عابئة أكثر بالتحرر، بحسابات المكسب والخسارة، «فالخبثاء/ أصحاب التجارب/يعرفون ذلك/ فى لحظات الوداع/ ينشغلون بالتفكير/ فيما سيرتاحون منه: التبرير/مشاجرات المساء/ آلام التأقلم».

تلك الصدمات «المضيئة»، التى تسخر بنفسها من تجربة كونية، كالعشق ومن تفاصيله، هى ذاتها التى تورطت فيه ــ ذات يوم ــ حد الألم، وتحاول التحرر من قيود أشباحه بالكتابة عنها.

سرد شعرى ينغلق على تفاصيله فى أوقات كثيرة، لكن دون استغلاق، فنحن أمام نصوص شفافة بامتياز، تسعى لاقتناص العابر، بشاعرية، بدقة، تنجح من خلال تعريتها لتلك التفاصيل، أن نتعرف معها على ما يتبقى بعد نزع القشرة عن اللب، مخلصة لحدوتة بعينها «حدوتة الانفصال» الذى تم فى بلاد أخرى بعيدة حيث «لم يتورط فى ارتكاب الوداع» تنجح أن تعرى الحب من نعومته، والذكريات من قفازاتها الحريرية، لتتبقى حقيقتها وحدها، دبابيس شائكة، توخز حياتنا، أو زجاج مكسور على الطريق يمنعنا من المضى قدما.

لكن فى أوقات أخرى، تومئ الحكمة أو خلاصة التجربة، تأتى كومضات، تتجلى فجأة وسط الديوان كصفعة ودودة، فلا يتكئ خير عند هذا التجلى على آلية السرد، بل يستعين، بكلام أشبه بكلام العرافين والحكماء بل والدراويش أحيانا، ليتحدث عن هؤلاء الذين «يؤجلون حياتهم فى سبيل الحذر/ يجلسون هادئين/مندمجين/ فى أحلام يقظتهم/ بينما تسرح/ فى أرواحهم قرحة الانتظار»

إنه يقودنا إلى الثورة، على الزجاج المكسور، أو يقود نفسه ليبدو لدقائق، هى عمر تقلبك من تلك القصيدة إلى التى تليها متمردا على الدائرة المفرغة، يبدو كمن وجد حلا، لكنه سرعان ما يعود محبطا، فى دائرة اكتشاف تلك «الهدايا» الزائفة للوحدة، والتى نكتشف فى النهاية أنها كأقراص المسكن، تخفف الألم، تداريه، لكنها لا تقتلعه من جذوره أبدا.

حتى عندما يقفز من وحدته، لـ« يتونس» بالجمع، أو الناس، يسمو بالحالة من وحدة فردية، لنكتشف معه، أنها وحدة جماعية، يقتسم فيها «المسافر ورصيف المحطة» و«المريض وسرير المستشفى» و«الأرملة وذكرياتها» «أقراص الوحدة، يكتشف البيوت المتلاصقة قسرا» رغم الكراهية بقوة الأسمنت، حيث تتحول الشبابيك إلى «دموع معلقة» والزهريات إلى «مقابر للورود».

الوحدة تمنح هدايا، كالتأمل، كالمعرفة، كالبصيرة، لكنها هنا فى ديوان خير وحدة قاسية، مؤلمة، تفرغ كل شىء من معناه التام، تتحول من فعل عطاء إلى فعل استلال، لكنها أيضا تظل فعلا متمردا على بروزة الأشياء، تلك «البراويز التى تسجن اللوحات ـ والمسامير التى تدميها».

هل اللوحة فارغة؟ جميلة؟ دميمة؟ وهل حياة بعضنا كأسرى الذكريات أمر يستحق أم أننا نسعى لـ«تزويقها»و«تلوينها» من أجل «تدخينها» فيما بعد؟ أسئلة تظل معلقة، تدور كصاحبها فى الدائرة الفارغة، وتنتظر أن نجد لنا وله المخرج، بعد أن نعرف أن «المزاليج ـ لا تمنع اللصوص ـ فقط تحرس الطمأنينة ـ وأن المراوح ـ لا تصنع الهواء ـ تستخدم المتاح منه ـ وأن المشاة فى الشوارع» صائدى الذكريات ما هم إلا جامعى أوهام.

محمد خير مواليد 1978 «هدايا الوحدة» هو ديوانه الأول بالفصحى بعد ديوانين بالعامية عن دار ميريت «ليل خارجى» و«بارانويا» ومجموعة قصصية بعنوان «عفاريت الراديو» عن دار ملامح، وكتب العديد من الأغنيات للمغنى اللبنانى «زياد سحاب» يبدو كفنان يحاول دائما اختراق فضاءات جديدة للتعبير، يبدو هذا من تنوع إصداراته، وكمثقف وقارئ جيد ومدرك بموهبة وبصيرة لسر الكتابة، ليس من المستبعد أن يفاجئنا بكتابة رواية، لكنه فقط ربما يكون فى انتظار اختمار «التجارب التى يفتقر إليها عشاق المقاهى فيكتفون بالشعر»، كما يقول فى قصيدة «اضطرار» التى تؤكد أنه يكتب الشعر بديلا عن الحكى، فيستفيد بشكل جيد من آليات السرد السمة الأساسية تقريبا فى قصائد النثر.

نشر في جريدة الشروق
بتاريخ 19 فبراير 2010

أشرف عبد الشافي عن هدايا الوحدة

هدايا الوحدة : اغلق باب غرفتك جيدا قبل قراءة القصائد
!

أحمد لله إننى لستُ ناقداً ، فقد كان من الممكن وبسهولة أن أفقد "برستيجى " ومهابتى ووقارى وأنا اقرأ ديواناً كهذا!، فمع أول قصيدة وجدتنى أصرخ لاعناً الشاعر وسنينه لعناً حقيقياً وليس على سيبل المدح !،إنها الرابعة صباحا وليس من الحكمة أن يرتفع الصوت هكذا ،فقد استيقظ صغيرى ، ومن حسن حظ هذا الشاعر انه ابتسم ونام!.

أعرف أننى قد أسقط من نظرك الآن ، ولكن ضع نفسك مكانى : شاعر يبدأ ديوانه بقصيدة عن "الكسل"ـ فضيلتى التى أفخر بها ـ ومع أول سطر تشعر كأنه ضغط على الريموت وتركك أمام شاشة عملاقة كى ترى نفسك وتسخر منها بينما هو يشرب القهوة بهدوء : "..المستقبل يعرف كيف يعتنى بنفسه /سيجد منفذاً إلينا /عاجلاً أم أجلا /سيصل إلى هنا ويجلس منقطع الأنفاس /من كل هذا الركض/ فى الاتجاه المعاكس /سيتلفت حوله متاكداً من غيابنا جميعا /قبل أن ينغمس /وحده /فى اصلاح كل تلك الأخطاء ..".

أرأيتْ ؟! ، لم يُعطنى فرصة أحافظ على مهابتى ،باغتنى ،فصرخت كالملدوغ وأنا أرى نفسى متمسكاً بالمستقبل ،حريصاً عليه .. أطارده فى كل مكان ،واحتفى احتفاءً مريباً بهذا المعنى وتلك الكلمة بحروفها المسننة المدببة !! كيف تكتمل متعة الكسل وأنا أعيش كذلك ؟!

ربما تشاركنى جنونى بتلك القصيدة ،فلاشك أنك حريص على المستقبل، وهذا فى حد ذاته عظيم ورائع ،لكن انظر إليه يا صديقى ممدداً كجثة فى تلك القصيدة !

هذا شاعر ملعون بلاشك ،لم يعطنى فرصة كى أُقلب ـ كما العادة ـ فى الديوان ،جذبنى من ياقة قميصى كتاجر شاطر يعرف أن البضاعة الجيدة تستحق فاترينة عرض لائقة .

كلمة "بضاعة " ستثير ثائرة حراس مدينة الشعر المهيبة المحصنة وكذلك النقاد الكبار بالطبع ، ولكن هذا ما فعله الشاعر"محمد خير" بالضبط " فى ديوانه " هدايا الوحدة " الصادر عن دار ميريت : اختار مشتركا إنسانيا ووضعه على وش القفص ،ثم وقف بعيداً يتأملنا ـ نحن القراء الطيبين ـ ويستمتع بالقهوة !.

من فيّنا لا يشعر بالذنب يومياً لأنه مقصر فى شىء ما ، من فيّنا لا تشغله قصة المستقبل حتى وهو يخطو نحو الخمسين ؟! ومن فيّنا لن يضحك وهو يرى " المستقبل " وقد جاءنا ـ بعد كل هذا الانتظار الطويل جدا ـ كهلاً يعانى انسداداً فى الشرايين والأوردة والأوعية ،إضافة إلى خشونة حادة فى الركبتين ؟! .

لا يجد "محمد خير" صعوبة ـ كما تخيلتُ شخصياً ـ فى العبور من بوابة شعر العامية إلى القصة ومنهما إلى الفصحى، فهو من ذلك النوع الذى يملك رؤية للعالم قائمة على التأمل والإخلاص التام له ،ورؤية للكتابة قائمة على البساطة ،والبساطة ليست وصفة طبية ، لكنها "فن" خالص ، يجعلك ـ على الأقل ـ لا تدور حولك نفسك طويلا ، بل تغوص داخلك سريعاً ، فأنا وأنت نشترك فى أشياء كثيرة، خاصة إذا دخلنا المطبخ ،نعم "المطبخ "، انظر معى إلى الأرفف ، وتوقف عند التوابل ، واقرأ قصيدة "سهو " فى الصفحة الثالثة عشر من الديوان ، والأفضل ألا تجهد نفسك بالبحث وتقرأها هنا: "فوق أرفف المطبخ /تركتِ لى /كل هذه العُلب /وقد ألصقتِ فوقها /أوراقك الصغيرة /وخطك الكبير/يشرح اسماء البهارات /بوضوح وصبر /كنت أعرف/أن ها الحنان سيؤلمنى /يوما ..".

لاشك عندى أنك تقف بجوارى الآن وأمامنا الشاشة العملاقة والشاعر لم ينته من فنجان القهوة بعد!.

فى وسط المدينة ،فى أى شارع منها ،ستصادف وجهاً ضاحكاً لطفل يكبر يوما بعد يوم ،بينما مازال يعلق فى كتفه حقيبة جلدية كأنها ميراث وثروة وصديقه جميلة ـ لا يغرك شكلها وهى تتدلى لتقارب ساقيه مفتوحة السوستة أو السوستين ـ هذا الطفل الذى يشبهك تماماً وأنت تعيش "الوحدة " مستمتعاً بها ،هو بطل ديوان "هدايا الوحدة " ، مجنون أنا ،وهل للدواوين أبطال يا جاهل ؟!، لو كنتُ ناقدا جيداً لابتكرت مصطلحا يختصر كل هذه الثرثرة !،لا بأس! ،فلنحتكم إلى القصائد ربما نجد "نظريةً" عن قصة بطل الديوان هذه :" إلى حيث تنتمتين / ذهبنا معا /ثم عدت وحدى .. وهكذا يمكننى أن استمر فى خداع السرير /والتلفاز والشرفة /فأقنعهم /أن غيابك /مسالة مؤقتة "من قصيدة "كان شيئا لم .. "، لا بأس من /تزويق الذكريات ببعض العصافير " قصيدة : سيصدقنا البعض" ،الفقد /ليس شراً كله /الخبثاء /أصحاب التجارب /فى لحظات الوداع/يعرفون ذلك /ينشغلون بالتفكير "قصيدة :من ناحية أخرى"،يقتسمان الوحدة :/المسافر /ورصيف المحطة /كذلك :المريض وسرير المستشفى/الشحاذ /وسور المدرسة/ الأرملة وذكرياتها "بالتساوى".

أليس هذا بطلا واحدا يكتوى بالوحدة ويستمتع بها ويلاعبها ويصادقها ؟!.أليس هذا "بطل" يقدم الهدايا لأصدقائه البائسين فى عالم الوحدة ؟!، يبحث عنهم فى كل مكان ويواسيهم ؟!، أنا عن نفسى أعانى "الوحدة" وفرحت بالهدايا ؟

محمد خير فى الحقيقة هو صاحب تلك "النظرية" فى الكتابة ـ التى فشلتُ فى ابتكارمصطلح نقدى فخيم يحددها ـ فقد جّربها فى ديوان عامية بعنوان " بارانويا "،وجعل القصائد كلها لبطل واحد يقف فى الشرفة وحيداً ،ويتأمل نفسه فى المرايا مذهولا بالموسيقى ،وأحياناً يرى عصفوراً يحترق على سلك الكهرباء ويتساقط ريشة ..وحيداً أيضا ، وجّربها " محمد خير " بطريقة أقل فى مجموعتة القصصية البديعة "عفاريت الراديو"،ولا تشغل بالك بأنه يكتب الشاعر العامى والفصحى والقصة أيضا ، فهو ـ كما قلت لك ـ لا يجد صعوبة فى ذلك ، يتنقل بينهم بخفة ، لأنه "كاتب" يحرث أرضه بالأدوات التى يراها مناسبة كى تثمر تفاحا أوبرتقالا أو حتى"خس وجزر"،لايستورد التجارب ولا المبيدات ،والعنوان عنده ليس كلمات متراصة أو متراقصة أو جذابة ، أو تسرق عين القارىء !،لكنه "الماستر بيس" كما يقول أهل الفرنجة .. هو المفتتح والمنتصف والختام ، "الوحدة" هنا ـ فى هذ الديوان ـ تلف وتدور فى المكان ،كأنما لحن واحد متنوع ومتعدد ومدهش وبسيط ومضحك ،وأحياناً يصيب ـ أمثالى ـ بهستيريا الصراخ ،فخذ حذرك واغلق باب غرفتك واستمتع بالوحدة.


أشرف عبد الشافي

الأهرام المسائي 17 فبراير 2010

الشاعر هشام الصباحي عن ديوان هدايا الوحدة


هدايا الوحدة .. عشاق المقاهي يكتبون الشعر

هدايا الوحدة تجربة محمد خير الجديدة التي يقدمها إلى خزانة الشعر العربي على شكل ديوان قصيدة نثر بالعربية الفصحى عن دار ميريت بالقاهرة في طبعتها الأولى عام 2010 ..محمد خير كتب من قبل الشعر في هيئة العامية المصرية وقدم ليل خارجي عام 2002,بارانويا عام 2008.. اليوم يخرج علينا مرتديا هدايا وحدته ويقدم نفسه والهدايا بالعربية الفصحى وليس بالعامية المصرية كما اعتدنا أن نراه ويرى نفسه من قبل ..عبر قصيدة نثر مصرية.. وهنا في هذه اللحظة لابد أن ينبت سؤالا تقليديا لماذا فعل محمد خير هذا؟ وهل هذا التغير يمكن أن يُعد تطوراً من العامية إلى الفصحى؟..وهل اكتشف خير أن تجربته الشعرية على هيئتها العربية الفصحى سوف تكون مقروءة أكثر في البلدان العربية التي يذهب إليها كصحافي وكاتب وشاعر؟ ..لذا أراد أن يتواصل أكثر مع بقع متعددة تكون بقعة كبيرة أكثر رحابة وتعددية تدعى تاريخيا الوطن العربي..
في الحقيقة إن الأمر برمته شائك ولابد أن تتوالد على جنباته العديد من الأسئلة و سوف تنبت مثل الأشواك على جانبي الزهور وتجعلنا عندما نتحسس الزهر الشعري تدمى أصابعنا ونتعلم بالدم خيارات جديد في التلقي والتذوق.
سوف يكون السؤال المطروح قديما وجديدا مع هذا الديوان أيهما أكثر استيعابا للتجربة الشعرية وأكثر تواصلا مع الآخر.. العامية المصرية أم العربية الفصحى للشعر المصري خاصة وتجربة شعراءه في اللحظة الراهنة
إن الشرك والخديعة الأولى التي قام بها بكل احتراف الشاعر محمد خير المتآمر علينا كانت في العنوان الذي يصلح بنفس الجودة الفنية أن يكون بداخله أشعار عامية أو فصحى وقد ساعده على هذا التآمر علينا نحن النقاد والقراء الغلاف الرائع للفنان المتآمر دائما حتى على نفسه ليحصل على لوحة فنية وغلاف فريد لكل كتاب على حده و مختلف عن الآخر الفنان احمد اللباد صانع الغلاف ,واحد أهم جنود خديعة القارئ ليسقط في براثن شعر جميل وتجربة رائعة تعبر عن الإنسان فقط ,حتى وإن ظهر على الغلاف أربع أشخاص هم في حقيقة الأمر إنسان واحد..شخص واحد.. يأخذ وضع المشي في اتجاهات مختلفة وبألوان مختلفة .
في الديوان آليات وتقنيات شعرية هي ثمار أصيلة لقصيدة النثر المصرية ونظيرتها العالمية حيث التوازي المتعدد مع تقنيات القصيدة على اختلاف أراضيها الجغرافية أو الثقافية والدينية ومنها تقنية إعادة اكتشاف الكون ومكوناته والأشياء الصغيرة والكبيرة التي تخصنا وإعادة تعريفها من جديد وتقديمها من خلال النص الشعري النثري وهذه التقنية هي واحدة من أهم خلاصات التقنيات الشعرية في قصيدة النثر ومن الأمثلة على هذا عند خير الشرفات التي لم تتذوق طعم المطر,والمزهريات التي أصبحت في قاموس الشاعر والانسانى مقابر للورد,البراويز التي تسجن اللوحات, المسامير التي تدمى البراويز, الجدران التي تبتلع المسامير,الطلاء الذي يخفى الجدران,الشمس التي تفتت الطلاء, وفى ص 42 يتجلى ويكتمل الأمر
بيوتنا
متلاصقة
-رغم الكراهية-
بقوة الأسمنت,,
الشبابيك
تلمع في الواجهات
كدموع معلقة,,
إن الحكى الشعري الذي يتحول إلى سردٍ صافٍ يخص قصيدة النثر فقط تستطيع أن تشعر به وتحسه وتتذوقه ولا تستطيع أن تمسك به أو تكتشف قانونه الخاص الذي يفْرقه عن سرد الرواية والقصة القصيرة وكل الفنون الكتابية الأخرى ,
يتضح هذا ويتجلى في قصيدة "احتفالها السرّى ص 45 "
إن الفلسفة واستخدام المعادلات الرياضية والذهنية الجمالية كانت من أهم التقنيات الجمالية التي نمت وعاشت داخل ديوان قصيدة النثر هدايا الوحدة وربما تكون هي أهم الإضاءات الإنسانية التي سوف يسلمها الديوان إلى أصدقاءه الشعراء وسوف تتجلى في نصوص العديد من القادم, ومن النماذج المهمة لهذا في ديوان خير وهى معادلة تشابه المصائر مع اختلاف الحالات حيث يقول ص49
سعداء
لا حاجة بهم
للأحلام,,

يائسون
لا طاقة بهم
للأحلام,,ا
إن المكاشفات وخلاصة التجارب ومفاتيح الفهم الانسانى في لحظته الراهنة شديدة القتامة والتعاسه احد أروع تقنيات الديوان ويتجلى هذا في قصيدة اضطرار ص 59 حيث يقول ويكشف ويعترف
تأليف الروايات
يحتاج إلى تجارب
يفتقر إليها عشاق المقاهي
فيكتفون بالشعر,,,
إن حالة الديوان تتناقض تماما ظاهريا مع ديوان سيد حجاب الأخير في الصياغة الشعرية حيث أراد سيد أن يكون أكثر صياحا وعاميا وأراد محمد أن يكون بلا صوت وخاص جدا وفصحى ولكن تظل
ترجمة بهاء جاهين الشعرية لشكاوى الفلاح الفصيح واقفة في المنتصف ,حيث التعبير عن عام ومتواصل يبدو من القراءة الأولى خاص ..هذه التجارب تذكرت الرابط بينهم أنهم ثلاث شعراء من قلب مصر ولقلب وروح الإنسان سواء كان مصريا أو لا,والثلاثة لهم ثلاث دواوين عن نفس الدار ميريت,وفى نفس العاصمة العربية ..القاهرة.

هشام الصباحي
31-1-2010